18 سنة على أول انتخابات بلدية بعد الحرب الأهلية، لم تفلح في تغيير الأسس والقواعد التي على أساسها يجري اختيار المرشحين، جنوباً، من جانب تحالف الأحزاب والعائلات. اختيار رؤساء البلديات وأعضائها والمختارين كان، منذ العهد العثماني، من نصيب كبار العائلات والملاّكين… ولا يزال كذلك. أما الناشطون والمعنيون بالشأن العام والمختصّون فليس امامهم الا التحسر دورة بعد أخرى
يسعى حزب الله وحركة أمل الى خوض الانتخابيات البلدية والاختيارية، في القرى والبلدات الجنوبية، وفق قواعد التوافق نفسها التي انتجت المجالس البلدية عام 2010: الأولوية للحزبيين أو الموالين من العائلات، من دون تجاوز سلبيات التجربة السابقة التي لم تراع اختيار أصحاب الكفاءة والخبرة في ادارة الشأن العام رغم أن أحداً لا ينازع الحركة والحزب على الفوز.
العائلات الجنوبية بدأت اجتماعاتها بايعاز حزبي، في محاولة منهم للمشاركة في اختيار مرشحّيها على أن يكونوا من الحزبيين أو الموالين، مع مراعاة المنطق «العشائري». فبحسب أحد منسقي ادارة الانتخابات البلدية في احدى بلدات بنت جبيل: «ارضاء العائلات هو الأساس، ولكل بلدة قواعدها. ففي بنت جبيل، مثلاً، جرت العادة أن يكون الرئيس من آل بزي، وفي شقرا تحاول عائلة خلف فرض هذا المنطق، وفي تبنين من آل فواز..»، رغم إقراره بأن «هذا الأمر يحرم البلديات أشخاصا أكثر كفاءة وقدرة».
ورغم أن التوافق بين أمل وحزب الله يجري تحت شعار رئيسي هو «منع الاحتقان بين الأهالي أثناء العملية الانتخابية»، إلا أنه أفرز في الانتخابات السابقة نتائج سلبية بسبب عدم الانسجام بين الأعضاء، وأدى الى استقالات جماعية في بلديات عدة (ميمس، الكفور، بيت ليف، صفد البطيخ…)، لأن «التوافق في الانتخابات لم ينعكس توافقاً داخل المجلس»، بحسب مختار بلدة بيت ليف محمد اسماعيل.
المستوى العلمي المتدنّي حدّ من الدور الريادي الذي يمكن أن تؤديه البلديات والمختارون
واللافت أن الخلافات البلدية غالباً ما تكون لأسباب ضيقة بعيداً عن المصلحة العامة. ويعزو عدد من المهتمين الأمر الى «عدم اختيار أصحاب الكفاءة، وعدم القدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة التي تمنع الاعتداء على المصلحة العامة أو تلزم البعض بدفع الرسوم والضرائب، أو تمنع المخالفات والاعتداءات من أصحاب المصالح والنفوذ، فيما يفضّل المعنيون دائماً حل الامور بطريقة تبويس اللحى، فلا يموت الديب ولا يفنى الغنم». وفي هذا السياق، يلفت رئيس بلدية عيترون حيدر مواسي الى أن «الكثير من المشاريع والأفكار المتعلقة بتنظيم البلدة من الناحية العمرانية والبيئية، تحول اعتراضات الأهالي دون تنفيذها، ولا يمكن البلدية فرضها لحسابات عائلية أو واقعية. وهذه الأمور تحتاج الى توعية وتثقيف اضافة الى دعم الدولة والقوى السياسية».
18 سنة على أول انتخابات بلدية بعد الحرب الأهلية، لم تفلح في تغيير الأسس والقواعد التي على أساسها يجري اختيار تحالف الأحزاب والعائلات للمرشحين، «ولا تزال هذه القواعد نفسها، منذ عشرات السنين، من دون الأخذ في الاعتبار التطورات الاجتماعية والثقافية والديمغرافية»، بحسب استاذ التاريخ بلال ياسين، الذي أوضح أن «اختيار رؤساء البلديات وأعضائها والمختارين كان، منذ الحكم العثماني، يأتي من كبار العائلات والملاكين. وفي عهد الاستقلال نظمت دورتان انتخابيتان في بعض القرى والبلدات، الأولى عاما 1952 (للبلديات) و1953 (للمختارين)، والثانية عام 1963 للاثنين معاً. وأدت الدورتان إلى استئثار عائلات الملّاكين بغالبية المناصب في المنطقة. والقاعدة نفسها في اختيار الممثلين المحليين اعتُمدت في ما بعد».
هذه السياسة تستثني الناشطين المعنيين بالشأن العام وأصحاب الكفاءات لمصلحة الولاء السياسي والحزبي. فمعظم المختارين الذين أفرزتهم الانتخابات الماضية «كانوا من مستوى تعليمي متدن. وكل مختاري بنت جبيل ومرجعيون لا يحمل أي منهم شهادة جامعية أو حتى ثانوية»، بحسب أحد المتابعين. وهذا يشبه حال «مختاري أيام زمان»، اذ يشير ياسين الى أن «نحو 86% من المختارين قبل الحرب الأهلية كانوا دون المستوى الابتدائي، ومعظمهم بقوا في مناصبهم لأكثر من 20 سنة». ويؤكد أن «المستوى العلمي المتدنّي للمختارين ساهم الى حد كبير في فقدان الدور الريادي الذي كان يجب أن تؤديه البلديات والمختارون، ما ساهم في تراجع التنمية وفعالية المطالبة بالخدمات نتيجة فقدان الأفق التنموي، وهذا ما يحصل اليوم». ويوضح أن «الانتماء العائلي لا يزال يساهم في ابعاد العناصر المنتجين نتيجة انتمائهم لعائلات صغيرة، وهذا ساهم في شرعنة الملكيات العقارية عندما استطاع العديد من النافذين تمرير الكثير من المخالفات العقارية التي ساهمت في زيادة حجم ملكياتهم».
يرفض العديد من أبناء الجنوب اعادة اختيار بعض المختارين المدعومين المشبوهين بسرقة الأراضي أثناء عمليات التحديد والتحرير الالزامي. اذ جرى رفع العديد من الدعاوى القضائية على بعض المختارين، خلال السنوات الماضية، بحجة « ارتكاب مخالفات قانونية لافتة ساهمت في تغيير ونقل ملكيات عامة وخاصة، حتى إن بعضهم أصبح من أصحاب الثروات وملّاكي العقارات»، وفي هذا السياق شاع الحديث عن لجوء أحد المختارين الى توزيع الأراضي على بعض الشباب المحتاجين من عائلات مختلفة، « بحجة المساعدة، ودفع الحقوق الشرعية» ما اضطرّ بعضهم الى رفضها واعتبارها «محاولة بائسة لاستغلال حاجة الشباب المادية، وبالتالي كسب الأصوات قبل الانتخابات، رغم أن الأراضي التي يعمل المختار على التبرّع بها، جرى الحصول على افادات عقارية بملكيتها، بعد المخالفات القانونية المعروفة أثناء أعمال المسح العقاري». واللاّفت أن بعض المشرفين على العملية الانتخابية لم يواجهوا هذه الظاهرة، التي عدها الأهالي خطيرة جداً، وتؤثر على نحو كبير في صدقية ونزاهة الانتخابات، ولا سيما أن « المختار نفسه، سبق له أن تبرّع بعقارات، قبل الانتخابات السابقة، وما يقوم به اليوم ليس مقبولاً، على الأقل أثناء الاستحقاق الانتخابي».