IMLebanon

البلديات في مواجهة سايكس بيكو اللبنانية

 

في الذكرى المئوية لإتفاقية سايكس- بيكو الأوروبية التي رسّمت حدود مناطق النفوذ بين القوى الكبرى، تهتز مرتكزات سايكس- بيكو اللبنانية بما تعنيه من ترسيم لمناطق نفوذ الزعامات السياسية التي نشأت خلافاً للطائف وخلافاً لمقدّمة الدستور التي كرّست الإنماء المتوازن للمناطق ثقافياً وإجتماعياً وإقتصادياً كركن أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام (مقدّمة الدستور- الفقرة ز). وعلى أساس ذلك لم تعبّر الدوائر الإنتخابية في لبنان، سواء كانت المحافظة أو القضاء أو القرية، عن حيّز جغرافي أو إجتماعي أو عن مجالٍ تكامليٍ للتعايش بل عبّرت عن تكريس لمناطق الهيمنة وعن حدود لنهاية نفوذ وبداية نفوذ آخر…. أجل نتائج الإنتخابات البلدية في محافظات بيروت وجبل لبنان والجنوب والبقاع كانت جديّة في إظهار الوهن الذي لحق بحضور الزعامات السياسية اللبنانية في مناطق نفوذها، ودائماً على قاعدة الإخلال المتمادي بتطبيق إتفاق الطائف سواء لجهة اللامركزية الإدارية أو لجهة الإنماء المتوازن.

إنّ فشل أركان سايكس- بيكو اللبنانية ليس في المجال السياسي لجهة استمرار عمل المؤسسات فحسب، بل في المجال التنموي ومعالجة مشكلتي النفايات والكهرباء، إضافة إلى الفساد المُستشري ووضع اليد على الأملاك البحرية والمشاعات وتجييرها للأزلام وانهيار المؤسسات وتفاقم حالات العزوى والأمن المحلي، جعل الطبقة السياسية جاهدة للإختباء أو الإحتماء خلف أي إنجاز بلدي، أينما وجد، أو لإقصاء الطامحين إلى العمل العام من خارج دائرتها الضيقة.

ظاهرتا صيدا وجبيل، على سبيل المثال وربما على صعيد الحصر تقريباً، شكّلتا النموذج الذي لم يستطع السياسيون إلا تبنّيه والوقوف وراءه. في جبيل، نأت الأحزاب بنفسها ولم تجدّ أمامها إلا خيار التأييد للإنجاز البلدي الناجح وبالتالي الإقتراع لصالح فريق العمل المرشّح خوفاً من الوقوع في موقف عبثي قد لا يتّفق مع المزاج الشعبي المؤيد. وفي صيدا، شكّلت الإنجازات البلدية والحالة الشعبية المتحلّقة حولها الرافعة لحالة سياسية، في حين أودت هذه الإنجازات بالحالة السياسية التي لم تعترف بها إلى أسفل مراتب الفشل. في البلديات الأُخرى التي شهدت ظهوراً واضحاً للرأي الآخر رغم الإصطفاف السياسي المذعور، فإنّ اللوائح الحزبية لم تنجح نتيجة خطاب تنموي أو من خلال لائحة إنجازات لا يُمكن إغفالها بل من خلال خطاب تعبوي حاد. لقد برز بوضوح مكوّن ثالث مولود من تراكم فشل الطبقة السياسية.

ربما تمنّى عدد كبير من النواب والوزراء في لبنان أن يحظوا بما حظي به بعض رؤساء البلديات من تأييد شعبي، فالإنهيار السياسي الذي ساقته هذه الطبقة من خلال تعطيلها للمؤسسات حوّلها إلى مجموعة من العاطلين عن العمل بل إلى ثقلٍ ينوء تحته المواطنون. أجل! لقد فقدت الطبقة السياسية مبرر وجودها وسقطت صورتها أمام مواطنيها وربما أصبحت خارج دائرة إحترامهم، وقد يكون ذلك بداية لسقوط العمل الحزبي بالمفهوم اللبناني وسقوط الطبقة السياسية بنسختها الراهنة. إنّ التحالف الحزبي المتوتر الذي ظهر بين الحلفاء الجدد أو بين الحلفاء والأضداد على حدٍّ سواء كان ردة الفعل التلقائية والعبثية لمحاولة تحقيق نجاح ولو نسبي وإنقاذ ما تبقّى من سمعة السياسيين ومن إرثهم البائد. أظهرت الإنتخابات البلدية بشائر لظهور قوة ناشئة تؤكد أنّه لا يُمكن وقف ديناميات المجتمع، حتى وإن تمّ تأخيرها بفعل التوافقات على صعيد الزعامات أو من خلال إرساء نظام المحسوبيات وحتى تحت وقع انتشار السلاح والمحميات الأمنية. هذه القوة التي حققت اختراقات واضحة في مدن وقرى ذات دلالة، ووفقاً لأرقام الناخبين تفوقّت على كلٍّ من المكوّنات الحزبية على حدى، هي على طريق بناء تجربتها بنجاح وثبات.

لم يعدّ الخطاب التعبوي بشقيّه المذهبي و«القومجي» جاذباً. يكتشف اللبنانيين يوماً بعد يوم أنّهم وقود لصراعات سياسية وإنّهم يدفعون من مستقبلهم واستقرارهم ومالهم ضريبة استمرار طبقة سياسية لا تمتلك الرؤيا ولا تنتج إلا نفسها. دول سايكس بيكو الأوروبية تداعت وتحوّلت إلى دول فاشلة لأنّ ثقافة الدولة لم تكن راسخة في العالم العربي ولم يكن هناك إدراك لديناميات إستقرارها. وسايكس بيكو اللبنانية بما تعنيه من مناطق نفوذ للهيمنة والزعامات السياسية آيلة أيضاً إلى السقوط لأنّ الطبقة السياسية لم تمتلك يوماً مفهوماً للمواطنة والوطن.

* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات