IMLebanon

القتل ووعي القتل

 

يدفع المسلخ البشريّ الذي يديره بشّار الأسد إلى تأمّلات في العنف والقتل، إلى دعوة لتأسيس وعي سياسيّ يرفضهما بالمطلق ويدينهما بالمطلق. ففي محلّ إجازة القتل باسم قضيّة ما، يطمح العقل والضمير إلى إحلال إدانة القتل، أيّ قتل وكلّ قتل، بوصفه سبباً كافياً لنبذ القضيّة المذكورة، فضلاً عن نبذ أصحابها.

 

 

فالقاتل والعنيف هو العدوّ. هو الخائن. هو صاحب القضيّة المجرمة. وإذا تعادل طرفان سياسيّان في الرداءة، أو في الجودة، فُضّل مَن لا يقتل على مَن يقتل. مَن لا يغتال على مَن يغتال.

 

وحين يقال: لا للقتل بالمطلق ومن دون استثناءات، بما في ذلك أحكام الموت على أنواعها التي تُصدرها سلطات لا تزال تطبّق هذه الأحكام…، وحين يدعى إلى تركيز السياسة على مبدأ رفض القتل بالمطلق، فهذا يرتّب بالضرورة نتائج منها:

 

أوّلاً، رفض الاستبداد، القاتل تعريفاً، والذي يمسك بآلة الموت ويشغّلها. وهذا ما ينزع عن مبدأ حصر أدوات العنف في الدولة أنيابه الأغلظ، كما يهبط بهذا «العنف الشرعيّ» إلى سويّة التحكيم القابلة للمساءلة الديموقراطيّة. فالعنف، في آخر المطاف، أكثر ما يقوّض الديموقراطيّة لأنّه أكثر ما يقوّض المساواة بين قدرات البشر.

 

وثانياً، إدانة «حقّ» القتل باسم الدين أو العصبيّة أو «مصالح» الجماعات أو «كراماتها»، أو «الحقيقة» بوجه عامّ، أمارست الدولة هذا القتل أم مارسته قوى في المجتمع قد توالي الدولة وقد تعارضها.

 

فالقتل أعلى في مراتب الجريمة من جرائم أخرى، كإنزال الإفقار بالناس أو إهانتهم في كراماتهم أو تلويث بيئتهم. ذاك أنّ الجرائم الأخيرة تتيح لضحاياها، ولو من حيث المبدأ، فرصة تنظيم أنفسهم والردّ السياسيّ على من أنزل بهم الجرائم تلك. أمّا القتل فيستأصلهم فيزيائيّاً ويُنهي المسألة برمّتها.

 

رفع مبدأ رفض القتل إلى سويّة المبدأ الناظم للسياسة هو ما تحضّ عليه اعتبارات تنحو به بعيداً من الطوبى والطوباويّ لتثبّته عميقاً في السياسيّ والواقعيّ.

 

فتلك اللازمة التي تقول إنّ العنف لا يحلّ مشكلة لم تكن صحيحة كما هي صحيحة اليوم، وفي أوضاعنا في العالم العربيّ خصوصاً. لقد شهدنا كيف أنّ عسكرة الثورات العربيّة كانت أقصر الطرق إلى الاحترابات الأهليّة بوصفها بديلاً من التغيير. أمّا الوضع الفلسطينيّ فيكشف مرّة بعد مرّة أنّ الانتفاض المدنيّ ربّما كان الخيار الوحيد الذي قد يملك بعض الحظّ في تحقيق إنجازات ملموسة للفلسطينيّين. فوق هذا، وبعد الحروب الكثيرة التي تلاحقت في منطقتنا، تتجمّع نُذر مواجهة إيرانيّة – إسرائيليّة فوق رؤوسنا قد تفوق سابقاتها ضراوة. وعلى الضدّ من تراث في الثقافة السياسيّة يمجّد العنف، ويشدّنا إلى ماضٍ يُراد دائماً تكراره وتأبيده، تغدو الأسلحة أقدر من أيّ يوم سابق على الفتك بالمدنيّين وتدمير المدن، فيما تتعاظم قدرة مصانع الأسلحة يوماً بعد يوم. لكنْ في المقابل، وبعد سلسلة طويلة من الإخفاقات السياسيّة التي عرفتها منطقتنا في تجاربها ومحاولاتها، يتّضح أنّ ما من أحد يملك الحقيقة كلّها، وما من أحد يملكها إلى الحدّ الذي يجيز له القتل باسمها.

 

وربّما جاز القول إنّ شطب القتل من حياتنا العامّة هو ما ينظّف الحداثة من أحد أبشع انحطاطاتها الأداتيّة والوظيفيّة. ولا نضيف جديداً حين نضيف، ونحن نشاهد ما يجري حولنا، أنّ هذا الانحطاط هو بالضبط أكثر ما أتيح لنا أن نعرفه من الحداثة.

 

ما من شكّ في أنّ القتل لازمَ التاريخ، تاريخنا وتاريخ سوانا. لكنْ ما من شكّ أيضاً في أنّ المقتلة السوريّة الراهنة تُتوّجُهُ على نحو يستحقّ أن يدفعنا إلى التفكير في أنماط من وعي جديد. إلى التفكير في هذه المهمّة التأسيسيّة. هذا بعض حقّ الضحايا علينا، وبعض حقّ أنفسنا علينا كي لا نغدو ضحايا.