بعد مرور احد عشر عاماً على غيابه اغتيالا، لا يزال يحتل سمير قصير جزءا كبيرا في وعي وضمير الناس وفي ذاكرة الأحرار والمستقلين على مساحة الوطن العربي وخصوصاً في سوريا ولبنان، وهو الذي تنبّاً وأعلن أوان الورد في دمشق بعدما تلمّس الربيع يزهر في بيروت.
في الثاني من حزيران العام 2005، كان سمير قصير على موعد مع الموت غيلة بعبوة ناسفة وُضعت تحت سيارته في بيروت، فكان الاغتيال الثالث بعد الرئيس الشهيد رفيق الحريري والوزير الشهيد باسل فليحان وذلك بهدف الاستمرار في عملية كم الافواه وضرب انتفاضة الاستقلال وخنق رياح الحرية التي صنعتها بيروت. لكن إرهابهم هذا كرّس الشهيد قصير لغاية اليوم، كواحد من أبرز صُنّاع القرار والنصر تماما كما كان يواجه الموت في حياته من خلال مقالاته الصحافية، فكانت النتيجة في الإثنين معاً خروج نظام الوصاية من لبنان بعد عقود من الظلم والقهر والإستبداد والإغتيالات الجسدية التي كان آخر محطاتها اغتيال الوزير محمد شطح.
لقد دفع سمير قصير حياته ثمناً لمبادئ آمن بها واختصرها بمجالات عدة، مرّة بشعار او موقف، ومرّات بمقالات ودراسات أكاديمية. حلم سمير بوطن محرر من النظام الامني والمخابراتي يتساوى فيه أبناؤه بحيث لا يكون هناك إبن ست وإبن جارية. حلم بحُريّة تستوعب الجميع من دون ان تنقلب نقمة على ممارسيها. في «بيان الحلم» كتب سمير: «ما نحلم به، ثقافة ديموقراطية تستعيد زخمها لتساهم في تجديد الديموقراطية العربية، ثقافة تنحاز لتحرر فلسطين ولا تخشى حرية سوريا ولا العراق». ومن قال بأن الأحلام تتوقف بعد رحيل صاحبها؟ ومن قال إن الرجال تنتهي بعد أن يُحاسب الجسد وتتم تصفيته بناء على الأفكار التي تحملها؟.
قاوم سمير قصير مع رفاقه في خط النضال، عسكرة النظام ومحاولات تكريس الهيمنة الأمنية السورية على البلد والتي كانت مدعومة بشكل فاضح من بعض الذين باعوا أنفسهم لهذا النظام في مقابل الاحتفاظ بمراكزهم. استعاد في احد مقالاته بعنوان «عسكر على مين»، عبارات من زمن الحرب متوجها بها إلى نظام الوصاية الذي كان يتحكّم بمفاصل البلد آنذاك. أزعجتهم عبارات «انا شعبي اكبر يا عسكر، بالحمرا بتسكر، يا عسكر، عسكر على مين، يا عسكر؟، عالفلاحين، يا عسكر«. اغتالوه، وكأن صوته يصدح اليوم ويقول «إغتيال على مين؟«.
قُتل سمير وبعده بأسبوعين أغتيل جورج حاوي. كان القاتل يُمارس في السر والعلن لعبته المُفضلة، الا وهي قتل الخصوم الذين وضعوه خارج حدود الوطن وعرّوه أمام الشعوب كلها، وكان يتابع مهمته التي بدأها مع محاولة اغتيال مروان حمادة وتبعها مع الرئيس رفيق الحريري وباسل فليحان وغيرهم من شهداء انتفاضة الاستقلال، ولكنه لم يكن يعلم أن الشعوب تتحرك وفقاً لقناعاتها وهو الأمر الذي إنسحب لاحقاً على الشعب السوري الذي استطاع أن يعطي لسمير قصير بعضاً من حقه. أعطاه ثورة ياسمين قبل أن يحوّلها النظام إلى بحر من الدماء.
وفي «بيان الحلم» يعود ويقول سمير: «اذ ندرك تماماً ان اختلافاتنا الفكرية والسياسية والطائفية تبرّر عند البعض القنوط والسلبية، فإننا ندرك ايضاً ان حلمنا بوطن معافى يقوى باجتماع هذه الاختلافات. فما نحلم به بسيط بساطة الايمان بالغد. ما نحلم به، بلاد تنهل من اختلافاتها لتحولها مصدر قوة وتماسك، بلاد متحررة من قيود الأنانيات الطائفية والعائلية».
خلال جلسة مع طُلاّب سمير قصير الجامعيين، تحدثوا عن رجل يضج بالأمل والحياة، عن رجل ما توقف يوماً عن الحلم. تحدثوا عن الأيام الأولى لإنتفاضة الإستقلال وعن الساعات التي أمضوها معاً في ساحة الشهداء وهو يروي لهم تفاصيل سبقت هذه اللحظات واللقاءات مع الناس والخوف الذي كان يتسرب أحياناً لكنه سرعان ما كان ينتهي بعد شعورهم بالنصر القريب. يقولون إن استاذهم ذهب ذات صباح الى الموت، وهو يحلم بلبنان الحر السيد المستقل والديموقراطي، وكذلك بفلسطين حرة وبسوريا خارج حكم الطاغية بشار الأسد وزبانيته.
بعد استشهاده، أسست زوجته جيزيل خوري ومجموعة من رفاقه مؤسسة تحمل اسمه وتهتم بنشر ثقافة الدفاع عن الإعلاميين والصحافيين في لبنان والعالم العربي، مؤسسة تحمل جزءاً من حلم سمير وأفكاره من الثقافة إلى الفنون، «مؤسسة سمير قصير»، والتي انبثق منها مكتب يهتم بمتابعة الظروف الأمنية والسياسية والرقابة التي يقع تحت مقصلها الصحافيون العرب، مركز الدفاع عن الحريات الاعلامية والثقافية «سكايز». تقول خوري في حديث إلى «المستقبل»: « السؤال الأبرز هو الآتي: بعد احد عشر عاماً ماذا تبقّى من سمير قصير؟« تجيب عن سؤالها بالقول: «بقى منه جائزة باسمه تُذكرنا به كل عام، والمهم في هذا الاتجاه هو أن نسبة التلاميذ بحالة ازدياد دائمة ومن مختلف الجنسيات. تبقّى منه الامل بدولة مدنية وحلم ان لبنان سيُصبح دولة قانون لا دولة ميليشيات واحزاب وتنافر وتناحر مذهبي».
وتُضيف: «لقد تبقّى من سمير قصير حلم ببلد لا طائفية فيه ومهرجان ربيع بيروت الذي يسمح لكل الناس بالمشاركة في الجمال والإبداع الفنّي. فحتى لو كان الربيع العربي قد توقف على أبواب مستبدين وطغاة، تبقى براعم وبذور ما طرحه سمير من أفكار، ستعود وتُنبت في كل وقت. ولوكان سمير ما زال بيننا اليوم، لكان فعل ما سبق وفعله سابقاً إن من خلال كتابته المقالات التي كان يُساند من خلالها جميع المؤمنين بالحرية وكان حتماً سيكون قلماً سليطاً بوجه كل طاغية يقتل ويفتك بشعبه. ولو كان سمير ما زال حيّاً اليوم، لكان هو 14 آذار. ولا بد من القول أن شُهداءنا من الرئيس رفيق الحريري إلى الوزير شطح، قُتلوا لأنهم لم يُقدموا تنازلات».
وتتابع: «لقد أمل سمير كثيرا من انتفاضة الاستقلال وحينها شعرت انني اعيش مع رجل كان مؤمنا بان هذا البلد هو شعاع لكل المنطقة وأن ربيع العرب سيأتي لا محالة. طبعا جاء ربيع العرب بعد 6 سنوات من استشهاده»، مشددة على أن «الذي جمع رفيق الحريري وسمير قصير هو حبهما لبيروت تحديدا وثانيا للبنان واقتناعهما بأن هذا البلد هو الأساس بكل المشرق العربي، وكل شيء يبدأ ببيروت حتى لو لم يكتمل.. كل شيء يمر في بيروت ويبدأ في بيروت«.
بدوره يقول الكاتب والصحافي مالك مرّوة، رفيق سمير قصير بالثورة والنضال، في حديث إلى المستقبل: «لقد كان سمير الدينامو الفاعل في ثورة الأرز وكانت تسمية انتفاضة الإستقلال من اختراعه. ولسمير أهمية خاصة كونه استطاع أن يتصالح بين عروبته ولبنانيته كما تصالح بين يساريته ولبنانيته، في وقت كان الجميع يخون بعضهم البعض. ولكن بحكم وجوده في الجامعة استطاع أن يصالح بين هذه التسميات كلها وأثبت أنه من الممكن أن تكون لبنانياً وتطالب بدولة مدنية«. ومروّة الذي كان من آخر الأشخاص الذين رأوا قصير قبل اغتياله، يؤكد أنه في ذلك الوقت «كان سمير متفائلا بالخروج السوري من لبنان على غير عادته وفرحًا بأن لبنان سيعود منارة الشرق. كانت همومه وقلبه في فلسطين، وعيونه على دمشق وعقله في بيروت«.
ويُضيف: «كان مندفعاً وكان يواظب على دفع الجميع نحو الاعتراض على الوجود السوري، وقد وجد في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري فرصة لتحريك قضية الانتفاضة. وعلى الرغم من ان قصير عمل كثيراً على الموضوعين السوري والفلسطيني، إلا انه لعب دوراً مهماً بعد اغتيال الحريري من الناحية المدنية، فأصبح معروفاً من قبل الجميع، كما وان كتاباته كانت منذ البداية جريئة وقوية، وكان «بيان الحلم» يدفعنا للسؤال حينها، كيف يجرؤ على كتابة هذا النص في ظل الوصاية السورية؟».
ويُسجّل لسمير قصير أن المتظاهرين في مدينة حمص، رفعوا في الثامن والعشرين من تشرين الأول من العام 2011 بعد فترة قصيرة على إنطلاق الثورة، لافتة كُتب عليها عبارة سمير الشهيرة «ربيع العرب حين يزهر في بيروت إنما يعلن أوان الورد في دمشق«.