مواجهة الإرهاب والإصلاحات والحریات والتنمیة هي العنصر الجامع في مصر والعالم العربي
في هذا الشهر، بلغت البشریة المحطة العشرین لهجمات الحادي عشر من أیلول 2001 ، وطیلة هذه السنوات، برزت متغیّرات كثیرة تدفع إلى البحث في أدوار الحركات الإسلامیة ونسق تطوّرها ومدى تمكّنها من مواكبة العصر، فضلاً عن فهمها للواقع الدولي وطبیعة النظام العالمي وتحدید موقعها في هذا العالم واختیار دورها ومهماتها في ضوء كلّ ما تقدّم. وفي كلّ المقاربات التي شهدها العالم العربي وعالم المسلمین، بقي تحدّي الإرهاب هو العامل الأكثر تهدیداً للسمعة والاستقرار والأكثر إعاقة للتنمیة والتطویر، ولهذا فإنّ السؤال الأبرز هنا یطرح نفسه: كیف تعاطت جماعة الإخوان المسلمین مع مسألة الإرهاب، ولماذا لم تستطع النجاح في احتلال المكانة المؤثرة الفاصلة في هذه المواجهة؟
الموقف الشرعي والسیاسي من الإرهاب
تعرّض الإخوان المسلمون، بصفتهم الحركة الإسلامیة الأم التي تولّدت منها الكثیر من التیارات والحركات، للكثیر من الاتهامات بالمسؤولیة عن أعمال الإرهاب، وهذا اتهام یحتاج إلى الكثیر من النقاش والتعریفات الدقیقة والمعاییر العادلة، ولعلّ الفتوى الشرعیة المُحكمة التي أصدرها المستشار الشیخ فیصل مولوي عشیة تلك الهجمات، كانت من أفضل المواقف التي تشكّلت منذ اللحظات الأولى لذلك العمل الإرهابي الهائل.
لكنّ بین الموقف الشرعي والسیاسي للإخوان من الإرهاب، وبین الدور وتحمّل المسؤولیة والتصدّي لهذه الظاهرة، مسافة شاسعة تستدعي النقاش، لأنّ إخلاء الجماعة للساحة أفسح المجال أمام مجموعات التكفیر والعنف لتحتل المشهد، بینما اقتصر دور الإخوان على التندید وعدم اتخاذ المبادرات للتصدي لهذا المدّ الخطر الذي اجتاح عالم العرب والمسلمین.
كیف قارب الإخوان ظاهرة «تنظیم الدولة»؟
لقد فوّت الإخوان المسلمون فرصة عظیمة علیهم، عندما اختاروا، في ذروة انتشار تنظیم «الدولة الإسلامیة» أو ما عُرف اصطلاحاً ب»داعش»، أن یتخذوا موقف المتفرِّج، لا موقف المبادر، حیث كان یمكن لهم أن یكونوا في قیادة ركب المواجهة لهذا التنظیم الذي أثار الرعب والدمار وكان سبباً في امتداد إیران واقتحامها لقلب العالم العربي.
كان الإخوان المسلمون الجماعة الأكثر تأهیلاً لمواجهة موجات التطرف، فهم یعلنون امتلاكهم منهجاً وسطیاً معتدلاً تربى علیه مئات الآلاف من الشباب في العالم العربي والإسلامي، ولدیهم مؤسسات تربویة وكتل سیاسیة ونخب منتشرة في أنحاء الأرض، لكنّ أثر علماء وشباب الإخوان لم یظهر في مواجهة داعش، إلاّ قلیلاً، فالغالبیة العظمى من قیادات الجماعة غضّت الطرف ولم تخض معاركها المحلیة والخارجیة والدعویة والفكریة والإعلامیة في مواجهة هذا الاختراق الذي ضرب عمق الوجود الإسلامي وتسبّب في نشر الدمار والخراب في معاقل المسلمین وأفسح المجال للتمدّد الإیراني أن یأخذ مداه، من دون أن یكون للإخوان أثر فاعل في هذه المواجهة، باستثناء ما بذله إخوان سوریا، لكن من دون أن یوصل إلى نتائج فارقة، وما تعرّض له إخوان العراق وما نتج عنه من انقسامات ناجمة عن اختیار البعض منهم الالتحاق بمشروع السلطة الأمیركي – الإیراني.
لم یخض الإخوان كجماعة منظمة، هي الأكبر والأعرق في العالم العربي، حرباً فعلیة ضد تنظیم الدولة، لا في الجانب الفكري ولا في الخطاب المسجدي ولا في عالم السیاسة ولا في منابر الإعلام، إلاّ في مواقع محدودة لم تترك أثرها على امتداد المواجهة الشاملة التي امتدت عبر العالم الافتراضي والواقعي على حدٍّ سواء، بعكس المواجهات التي خاضتها الجماعة مع المدّ الشیوعي والیساري في ستینات وسبعینات القرن المنصرم.
مواجهة غیر مكتملة
بدت حالات الاشتباك بین الإخوان وتنظیم الدولة أشبه بحالات التنافس على الحضور والنفوذ، ولم تكن حالة مواجهة جذریة، تنطلق من ضرورة الدفاع عن الاعتدال وإسقاط مشروع التطرف، وتقدیم التضحیات اللازمة لهزیمة هذه الظاهرة، رغم أنّ التنظیم استهدف واغتال قیادات إخوانیة بارزة في العراق وسوریا، وهذا یُحسب للإخوان، لكنه لم یكن كافیاً لتتوجه الجماعة نحو المواجهة المفتوحة مع التنظیم.
تضییع الفرصة في تصدّر مكافحة الإرهاب
أدّى تخلّي الإخوان عن دورهم في مواجهة تنظیم الدولة إلى خسارتهم لفرصة اندماجهم في المنظومة الدولیة على أساس تصدّر الصفوف للاشتباك مع هذا التنظیم، فشغلت إیران هذا الموقع، بینما انصرفت الجماعة إلى الاهتمام بالوصول إلى الحكم من دون إحداث التغییر والتطویر والتأهیل المطلوب للوصول إلى السلطة، مع اعتقادنا بحقها في طلب الحكم بالوسائل الدیمقراطیة، لكنّها لم تمتلك الكفاءة المطلوبة، سواء على المستوى الداخلي أو على صعید العلاقات الدولیة، وهي بدت شدیدة الضعف في هذا المجال وعانت من غیاب العمل الدبلوماسي بشكل واضح، حتى عندما وصلت إلى الحكم.
استغلال إیران لغیاب الإخوان
استغلت إیران غیاب الإخوان عن دورهم، فعملت على شقّ صفوفهم، وصاغت استراتیجیة كاملة مبنیة على اختلاق دورٍ محوري لها في «مكافحة الإرهاب السني»، وبنت مكانتها الدولیة واستجلبت الدعم الأمیركي والأوروبي بناءاً على هذا الشعار، رغم تورّطها في إنتاج هذا الإرهاب ونشره في العالم.
إختار الإخوان المسلمون الإدانة اللفظیة للجرائم التي ارتكبها تنظیم الدولة، ورغم وجودهم الفاعل في الدول التي انتشر فیها، فقد تراجعت الجماعة إلى الصفوف الخلفیة، وتغاضت عن وقوع تلك الأحداث في عقر دارها، ولم تسخّر من مواردها العلمیة – الشرعیة والبشریة المیدانیة والإعلامیة، سوى النذر الیسیر للتصدي لموجات التنظیم، بدل أن تتصدر الصفوف، وتفرض نفسها شریكاً أساسیاً في «مكافحة الإرهاب».
إنّ تلكؤ الإخوان عن دورهم المركزي والموسع، في التصدي لتنظیم الدولة وبقیة التنظیمات المتطرفة أظهرهم في موقع الضعف وقلّة الحیلة والعجز عن خوض مواجهةٍ هي الأهم، تتعلق بأكبر عملیة ضربٍ وتشویه للدین الإسلامي الحنیف، وسمحت لخصومهم باتهامهم بتبادل الأدوار مع هذه التنظیمات.
شعار الوسطیة بلا دفاعات
بعبارة أخرى: رفع الإخوان شعار الوسطیة ونبذ الإرهاب، لكنّهم لم یدافعوا عن هذا الشعار، ولم یناضلوا من أجله، ربما لأنّ خیاراتهم السیاسیة تفرّقت أیدي سبأ، فتوزعت بین من یرید الارتماء في أحضان إیران، وبین من یعجز عن التفاهم مع العرب، وربما تكون هذه المواقف من أسباب التخبّط الذي وقعت فیه الجماعة، وسمحت بالحملات المضادة علیها لاحقاً.
نموذج إخلاء الإخوان الساحة أمام الفكر التكفیري والإرهابي یمكن تقدیمه في لبنان بوضوح تامّ، وهذا یشمل الجماعة الإسلامیة ومجمل الهیئات والتیارات التي لم تجرؤ على إشهار المواجهة الصریحة مع موجات العنف، وتركت لباقي فئات المجتمع خوض هذا التحدي، من دون أن یكون لها قصب السبق في هذا المجال، كما یفترض أن یكون.
فرص جدیدة في ضوء المتغیرات
الیوم، هناك متغیّرات كبیرة، أهمها المصالحات التي انطلقت بین تركیا ومجمل الدول العربیة، وإن بنسب متفاوتة، بینما یعود شبح الإرهاب لیخیّم من جدید بعد الانسحاب الأمیركي من أفغانستان، مع بروز مسار جدید لتنظیم الدولة، بینما یعاني الإخوان تداعیات الانهیار بعد الموجات المضادة للربیع العربي، وهنا تبرز جملة تحدیات أساسیة، أمام الجماعة، تتعلّق بمستقبلها، وبمدى تماسكها واستمراریتها الفعلیة، لیبقى الموقف من مواجهة التنظیمات الإرهابیة البوصلة التي تحدّد المسار وتحكم المستقبل.
أطلق الرئیس المصري عبد الفتاح السیسي مؤخراً إشارات إیجابیة تفتح أبواب الحوار بینه وبین الإخوان في مصر وهذا یستوجب مقاربة مختلفة تماماً لطریقة إدارة الأزمة خلال المراحل السابقة، وذلك في اتجاهین:
– الاتجاه الأول: إصلاح فكري وسیاسي یذهب نحو تحریر العمل السیاسي عن العمل الدعوي والتأسیس لمسار ینسجم مع فكرة الدولة الوطنیة بالاستناد إلى المنظومة الأخلاقیة الجامعة للشعب المصري.
– الاتجاه الثاني: تصدّر الواجهة في مكافحة التطرّف والإرهاب في مصر والمنطقة العربیة، ووضع استراتیجیة شرعیة وسیاسیة وثقافیة متكاملة تصبّ في هذا الاتجاه.
إنّ تحرّر الإخوان من أعباء الماضي ودخولها مدرسة التطویر السیاسي، من شأنه أن یدفع نحو انفراجات سیاسیة في مصر على قاعدة التموضع الجدید القائم على تكریس معادلة المشاركة لا المغالبة، والتخلّي عن ازدواجیة الحزب السیاسي والجماعة، والمرشد والرئیس، فهذه الازدواجیات كانت سبباً هاماً في الفشل، من دون أن ننسى أنّ الصراع مع القوى الأخرى المحلیة والدولیة كان له أثره في إسقاط حكم الإخوان.
تحتاج مصر والعالم العربي إلى مصارحة ومقاربات واقعیة: ففي مصر وغیرها، یصعب تحقیق الاستقرار مع استمرار حظر الإخوان، وعلى الجماعة أن تدرك أنّها لن تستطیع التفرّد بالحكم، والطرفان یحتاجان إلى اعتماد إصلاحات تصبّ في خانة تطویر الدولة وخدمة الشعب.