هذا السؤال طرحَه أكثر من مفكر “نهضوي” قبل القرن العشرين، وقبل الأمير شكيب أرسلان في العام 1930.
وهو سؤال مستمرّ، بل يتزايد طرحُه أكثر فأكثر، كما لو أن الجواب عنه مفقود. يتكرّر السؤال مرّة مرة، وكاتباً كاتباً… مع حرقةٍ مرافقة له.
هؤلاء المفكرون وغيرهم أيضاً قلَّبوا السؤال في اتجاهات مختلفة، وشَخَّصوا وعاينوا واقترحوا حلولاً وحلولاً. إلا أنّ ما يغلب في مواقفهم هو البناء على السياسة وحدها، إذ جعلوا من بلوغ السلطة، والتّمكّن من أجهزة الدولة، توجّهَهم الأول. هذا ما ارتسمَ في مساعٍ حزبية، في بناء زعامات ومكانات، في مشروعات إيديولوجية وغيرها.
بل ارتسمَ خصوصاً في تسارعِ نخبٍ عسكرية إلى “الانقلاب” (ما سمي “ثورات” بكيفية غير مناسبة) في أكثر من بلد عربي… أي في تسارعها إلى التمكن من أدوات الحكم.
ما تولت القيام به هذه “الثورات” المزعومة، هو تنمية الاستخبارات، التي اشتغلت في الرقابة على المجتمع، أكثر من إعداد العدّة لمقاومة الإمبريالية والصهيونية و”أذنابهما المحليين”.
ما غاب تماماً في هذا المسار، هو تنمية قوى المجتمع، وإطلاقها، بعد طول احتباس.
ما عملت عليه سياسات هذه الدول “الثورية” قام على إسكات المجتمع، وبقوة أكبر مما كان عليه في عهود إسلامية سابقة.
فالشورى الإسلامية سقطت تماماً بعد الصحابة، وتحكمت بالمصير الإسلامي سياساتُ “غلبة”، بما فيها من نجاحات وإخفاقات.
وهي غلبة استلزمت “الطاعة” من قبل العوام، على ما فرضته السياسات، وعلى ما أجازته فتاوى الفقهاء بدورها.
هذا ما تمادى في عهود إسلامية مختلفة، فيما كانت تبني امبراطوريات وممالك أوروبية، في “حدود” بعينها، مؤسسات دولِها. هذا ما جعل حكم هذه “مقيداً”، كما يصفه الطهطاوي، لا حكماً مطلقاً، كما كان عليه الحال في آخر السلالات الإسلامية الحاكمة، أي العثمانية.
هذا الإطباق الشديد على المجتمع، على قمع أي ظواهر فيه، جعلَ السلطة العربية، بعد استقلالاتها، متسيّدة من دون رقيب، على الرغم من الكلام عن سيادة الشعب في الدساتير. بل ظهرت أقل ديمقراطية وحرية وعلماً وثقافة وتعبيراً مما كانت عليه الحكومات العربية تحت النظر الاستعماري.
هذا ما تكفّلت به قوى الاستخبارات والأمن، فجنّدت الممثلة السينمائية، وأوقعتْ بالزوجة للتجسس على زوجها، والكاتب على زملائه الكُتاب، والنقيب على أعضاء النقابة…
هكذا تنتهي السياسة إلى أن تكون عصيّة؛ ولا تكون “الثورات” غير انقلابات، أو هبات احتجاجية، أو حروب أهلية، مذهبية مستورة.