قد لا يكون من الحكمة في هذا اليوم اطلاق الخلاصات من آخرها، لكننا نخالف هذه القاعدة لنقول ان مرور عشر سنوات على انتفاضة ١٤ آذار يكتسي طابعا اهم من الاحتفالية الى البعد الاهم وهو إلزامية بقاء هذه الشعلة نابضة في كل الحياة السياسية والوطنية اللبنانية، وإلا لصار لبنان هذا شيئا مفزعا تماما.
نقول مفزعا لا من منطلق تحزب او اصطفاف تقليدي على ضفة “معسكر” داخلي بل من منطلق روح ذاك القسم الذي أطلقه جبران تويني في ذاك اليوم من منصة ترانا نتساءل بخوف كبير اليوم ماذا تراه يبقى من لبنان لو زال واندثر وتهاوى امام عواصف الأصوليات الزاحفة من حولنا وتهددنا بتصحير الحرب المذهبية والطائفية والعنصرية والتوحش بدوافع القضاء على القيمة الكبرى التي اقسم عليها جبران تويني، قيمة “مسيحيين ومسلمين” معا “الى أبد الآبدين”.
يسوقنا ذلك فورا الى الأبعاد والتساؤلات والشكوك الضخمة التي تطرح في ذكرى عقد على انفجار اكبر ثورة استقلالية عرفها لبنان في تاريخه الحديث، وحتى اكبر من الاستقلال “الرسمي” عام ١٩٤٣، بفعل ظروف تاريخية نفضت عن الشعب اللبناني آنذاك وصمة الاستسلام للوصاية السورية التي رزح تحتها سحابة اكثر من عقدين وكان مفجّرها الاساسي التوق الى استعادة الاستقلال والسيادة والقرار المستقل. بعد عشر سنوات هل تراها الانتفاضة تلك استعادت الاستقلال والسيادة والقرار الحر بالكامل ام تراها تعثرت وتراجعت وتآكلت؟ والاهم اي “وظيفة” بعد لـ١٤ آذار كحركة شعبية وقوى سياسية تحمل اسمها ومبادئها في تحالف سياسي عريض بل واي خريطة طريق لعشر سنين مقبلة بعدما ضرب زلزال غير مسبوق في تاريخ المنطقة الركن الأصلب والاهم في ما قامت عليه ١٤ آذار؟
لعله من السخافة والتسطيح فعلا حصر هذه الذكرى بمجرد ترف عابر وظرفي لمراجعات يختلط فيها غلو في جلد الذات بغلو آخر في التعامي عن النكسات والقصور والأنانيات وضيق السياسات. الامر الذي يعني اللبنانيين جميعا، سواء كانوا من حركة ١٤ آذار او من خصومها او على ضفة المستقلين “الحياديين”، يطرح من زاوية افتراض سلبية: ماذا يكون عليه لبنان لو اضمحلت حركة ١٤ آذار؟
بذلك ترانا نقول انه من الناحية المبدئية الصرفة كما من الناحية السياسية العملية لا تزال “وظيفة” حركة هذه الانتفاضة ودورها واجبة الوجود والاستمرار ربما اكثر من تاريخ انطلاقها لان مجمل العوامل التي أشعلت ثورة الأرز آنذاك على خلفية مناهضة الوصاية السورية تمظهرت بمظاهر جديدة بعد زوال الوصاية ولو اختلفت طبيعتها عن السابق. ذلك ان السنوات العشر السابقة امعنت بكل تطوراتها وظروفها المتعاقبة في تعميق الخلل في ميزان القوى الداخلي بفعل واقع مختل اساسا في معادلة التشريع بالقوة القاهرة لفريق يمتلك “حق السلاح” الاستراتيجي في مقابل فريق اعزل. وإذا كان هنا من مساءلة لفريق ١٤ آذار بعدم مواجهته “حزب الله” بالتسلح فان الحقيقة الموضوعية تثبت بان من اهم المكاسب الوطنية الحقة التي تسجل لحركة ١٤ آذار هي تعطيل مشروع الفتنة والحرب الأهلية بترجمتها شعار العبور الى الدولة اقله من باب تجنب السقوط في التسلح المضاد او التسليم بأنماط تعطيل النظام. ثم ان التمحور الاقليمي الذي بلغ راهنا ذروة مداه في ادراج لبنان تحت سطوة النفوذ الايراني تحديدا، ولو بشكل دعائي شديد التضخيم، يشكل في ذاته الدافع الاقوى والأشد إلحاحا لإبقاء عامل توازن في الحد الادنى من مناهضة توسع هذا النفوذ لئلا تغدو بيروت فعلا العاصمة الرابعة التي يجتاحها نفوذ الحرس الثوري الايراني بعد بغداد ودمشق وصنعاء.
هل يعني ذلك ان ذكرى عقد على الانتفاضة الاستقلالية تملي التحريض على إذكاء الصراع الداخلي بحجة تحقيق التوازن السلبي؟ حتما لا، ولعل افضل ما تحمله هذه الذكرى لمن فاتهم معنى ذاك اليوم المشهود هو اعادة ترسيخ مفهوم الانتفاضة السلمية الحضارية التي لم ترق خلالها نقطة دم واحدة. يكفي للدلالة على ذلك ان الانتفاضة سارت على خطى البطريرك الاستقلالي التاريخي مار نصرالله بطرس صفير احد اكبر رموزها في المناهضة السلمية للوصاية كما ان اغتيال الرئيس رفيق الحريري حصل على خلفية التطور التاريخي لتحالفه مع قوى المعارضة للتخلص من الوصاية.
من هذا الجانب يكتسب قسم جبران تويني بعد عشر سنوات من إطلاقه وبعد تسع سنوات من استشهاد مطلقه شهادة شرف مزدوجة اضافية لهذا الشهيد في هذا اليوم تحديدا. من جهة يبدو القسم كأنه حافظ بقوة ساحرة مذهلة على اقرب صلة وصل بين جمهور ١٤ آذار ٢٠٠٥ وجمهور الحركة نفسها في ١٤ آذار ٢٠١٥. لا بل يمكن الجزم من دون تبجح وبعيدا من الوجدانيات ان قسم جبران تويني يمثل من الناحية السياسية الصرفة اهم اختصار انساني ووطني وسياسي لحركة ١٤ آذار اطلاقا وخصوصا الان اكثر من اي وقت سابق. اذ ان هذا النبض التوحيدي بين المسيحيين والمسلمين في القسم لم يكن آنذاك مجرد “شعطة” انفعالية أخذت بصاحبها الذي كان ينظر من سطح مبنى “النهار” الى الألوف المؤلفة في ساحات بيروت بشغف يصعب وصفه. بل ان جبران تويني اختصر آنذاك خلاصات جيل شباب الحرب الذي جرفته موجات التطرف فاذا به يطلق عصارة اختماره مؤمنا بان لا لبنان ولا سيادة ولا استقلال ولا مستقبل الا بلبنان مسيحيين ومسلمين.
اما من الجهة الاخرى ولعلها الاهم اليوم، فإننا لا نغالي ان اعتبرنا، ان هذا القسم بمراجعة محدثة لمضمونه تتواءم مع الظروف المرعبة التي تجتاح المنطقة، يصح ان يكون هو نفسه منطلق صياغة الدور الاساسي لقوى ١٤ آذار في العقد المقبل. انها هنا بصراحة مسألة الحفاظ على المسيحيين والأقليات التي نرى ان على قوى ١٤ آذار ان تتنكب لها وترفعها كأولوية وجودية وحضارية وانسانية لا تعلوها اي اولوية اخرى. والحق يقال ان مجمل القوى السياسية اللبنانية هي الان في موقع متقدم من هذه المسألة المصيرية وهو العامل الذي يوجب على قوى ١٤ آذار المتمسكة اساسا بخطاب حركتها الام بهذا البعد ان تتحول الرافعة الاولى للمضي في الدفاع عن جوهر لبنان يمكنه ان يبقى محتفظا بميزة النموذج الذي تتكسر عنده عواصف الأصوليات وموجات التكفير والتصحر الإنساني والحضاري والاحاديات الدينية وحروبها المدمرة. ذاك ما نراه في ١٤ آذار ٢٠١٥ وبعده.