IMLebanon

أزمة المسلمين في تسييس الإسلام

يواجه العرب والمسلمون أزمة تاريخية عميقة جراء صعود الإسلام السياسي وتصدّره الفعال المشهد لا سيما الإسلام السلفي الجهادي التكفيري. يجيب البعض، من موقع الإسلام السياسي نفسه، ان ظاهرة التكفير والعنف والإرهاب ليست حقيقة الإسلام وانه يجب تصحيح الصورة فكرياً وتقديم النموذج الآخر. بالرغم من أهمية هذا الطرح والمسؤولية الكبرى للقوى والتيارات البعيدة عن الممارسات الشاذة المتوحشة، إلا أن هذا الأمر يحتاج فعلاً إلى نموذج يضع الإسلام كثقافة لمعظم مكونات الأمة خارج الاستخدام السياسي، لأن ذلك يجعله حتما في وضعية النزاع على السلطة المعنوية والمادية الرمزية والواقعية.

كل محاولة لجعل الدين مشروعاً سياسياً أي مرجعية للدولة أو السلطة أو ثقافة سائدة أو مهيمنة هي مشروع صراعي، والصراع على السلطة له وسائل وأدوات غير ثقافية وعنفية في هذا المجال.

ما نشهده الآن من تأزم للنزاعات يعود في جزء أساسي منه إلى إقحام الهويات الدينية في الصراع السياسي. ومن سوء الحظ أن المداخلات الخارجية تصب في الوجهة نفسها إن بسبب هوية المتدخلين أو بسبب استثمار الخارج لصراع الهويات هذا.

كانت الأصولية أو السلفية الإسلامية ثقافة خليجية سعودية الأصل لأسباب وظروف تاريخية معروفة. لكنها لم تكن قابلة للتصدير قبل تراجع المشروع القومي العربي وظهور سلطة النفط. ولكن بتبرير هذه المرة في صد محاولة تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية، أي الإسلام الراديكالي الذي يصيب الأنظمة العربية كلها بمقتل تخاذلها وتخلفها وهجانة ثقافتها أمام شعوبها، والإسلام الإيراني نفطي كذلك وله أبعاد قومية ومذهبية ومصالح إقليمية.

ليس صدفة أن تصدير الثقافة السلفية (الوهابية) هذه تصاعد مع صعود الدور الإيراني واغتذى من هذه التناقضات وأقام مشروعاً متكاملاً في مواجهة تحديات الخارج بالتقاطع مع الغرب ضد السوفيات في أفغانستان وبقايا نفوذهم في العالم العربي وضد النموذج الإيراني.

إيران نموذج لإسلام سياسي خاص، لشعبها أن يقرر مدى ملاءمته لحاجاته ووعيه وطموحاته. لكن حين يصير هذا النموذج مادة للتصدير لا نكون أمام عمل تبشيري ثقافي فقط بل أمام سلطة تجذب بصورة أساسية فئات من الشعوب العربية ذات وضعيات مذهبية. وهذه الفئات تحمل إرثاً تاريخياً طويلاً من الصراع حول تفسيرها أو تأويلها الخاص للإسلام ولما يترتب على ذلك من نقض لهويات السلطات القائمة ومنظومة ثقافتها وممارستها.

قد يكون لهذه الفئات مظلومية مشروعة في كبت حرياتها العبادية ونشر أفكارها وكذلك في الموقع الاجتماعي والسياسي الذي فرض عليها، أو شكوى أحياناً من استهدافها ثقافياً وسياسياً. لكن ذلك لا يمكن معالجته في محاولة احتكار شرعية المرجعية الإسلامية ثقافياً وسياسياً أو في محاولة بناء مرجعية مركزية تحت شعار وحدة الإسلام والمسلمين.

المسلمون في وجودهم الراهن مذاهب فكرية تحولت إلى منظومات سياسية متجسدة في دول وطوائف. لم يكن بينها في القرن الماضي نزاعات حادة لأنها اندرجت جميعها في مشاريع سياسية محافظة أو راديكالية. انهيار المشروع العربي جعل منها أحزاباً سياسية تبني نفوذها ومواقعها على البيئات الطائفية.

هذا واقع لا يمكن معالجته بفتاوى العلماء ولا المرجعيات الدينية المتعددة والمتعارضة ولا من خلال البحث عن «المشترك الإسلامي». المشترك الإسلامي لا رصيد كبيراً له في ما نعلم إلا ما صار يُعرف بالقيم والمبادئ العامة التي صارت جزءاً من ثقافة الأمة ووجدانها الجمعي ومن بنية الدولة الحديثة.

في ما خلا ذلك «لم يسل سيف في الإسلام كما سلّ في مسألة الخلافة والإمامة» أي الحكم والسلطة. هذا النزاع يتجدد اليوم مع تبلور غير مسبوق للطوائف بوصفها مؤسسات سياسية تعبر من خلالها الكثير من امتيازات السلطة. وليس أدل على ذلك من محاولة تغطية البعد المذهبي والبعد السلطوي تحت مسمى مواجهة الخارج، والدفاع عن هوية ومصالح الأمة.

آلت النزاعات في لبنان والعراق وسوريا واليمن والبحرين إلى انشطار مذهبي طائفي ليس من أثر فيها للبحث عن نموذج مشترك مع باقي المكونات الإسلامية وغير الإسلامية، وكأن جمع هذا التعدد والتنوع يحتاج إلى قطب مسيطر يقود الآخرين حيث يشاء من موقع القوة إلى خياراته السياسية والثقافية. لكن الإسلام السياسي بتياراته وأطرافه كافة لم ينتج حتى الآن نموذجاً جاذباً مؤسساً للتقدم الاجتماعي والإنساني، بل تفوق هنا أو هناك بمنطق القوة المرتكزة إلى العصبية لا إلى التنظيم الاجتماعي. فحين يرتبط صعود أي فئة اجتماعية ببعد إيديولوجي عصبي يتحول إلى مشروع شمولي مقلق للآخرين.