يقدّر عدد المسلمين في الاتحاد الروسي بحوالى عشرين مليوناً. بينهم مليونا مسلم في موسكو وحدها. ولكن لا يوجد في موسكو سوى أربعة مساجد.
تفسّر هذه الظاهرة غير الطبيعية نظرية اجتماعية سياسية تقول إن روسيا استبدلت الارثوذكسية بالشيوعية لتكون العامل الجامع الجديد بين الروس في الجمهوريات المتعددة التي يتألف منها الاتحاد. وان موسكو تحوّلت من عاصمة للشيوعية العالمية الى عاصمة مقدسة للكنيسة الارثوذكسية. أي أنها أصبحت مثل الفاتيكان بالنسبة للكاثوليك، ومكة بالنسبة للمسلمين. وهذا يعني انه من غير الطبيعي أن يقوم في موسكو مسجد جديد أو حتى كنيسة كاثوليكية أو كنيسة إنجيلية جديدة.
لقد سبق أن صادق مجلس الدوما (مجلس النواب) على منع أي تبشير بالمسيحية الكاثوليكية أو الإنجيلية. وتعرضت البعثات التبشيرية الى المطاردة والإبعاد. وأعلن رسمياً أن الدولة الروسية لا تعترف إلا بالارثوذكسية والإسلام والبوذية أدياناً رسمية في الاتحاد.
وصل الاسلام الى سيبيريا حيث توجد مجموعات اسلامية في مدينة أوفا كبرى المدن السيبيرية. ووصل حتى الى القطب الشمالي، حيث بنى المسلمون مسجداً في منطقة نوفي ايرينغول، المتاخمة للدائرة القطبية يبلغ ساعات الصيام هناك حوالى 22 ساعة. غير أن السلطات الروسية هدمت هذا العام المسجد كما هدمت المدرسة الإسلامية التابعة له.
يواجه الكرملين مشكلة مع عدد من القوميات الإسلامية في بعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي (السابق) وبخاصة في منطقة القوقاز، مما انعكس سلباً على علاقاته معهم جميعاً. وخاض الحرب مرتين في الشيشان. وعندما تدفق العشرات من المقاتلين الشيشانيين الى سورية للقتال ضد النظام السوري، فعلوا ذلك للانتقام من السلطات الروسية المتحالفة مع هذا النظام والداعمة له. وما لم يستطع هؤلاء المقاتلون الشيشانيون القيام به في بلادهم اعتقدوا أن باستطاعتهم القيام به في سوريا. وهو الثأر من الكرملين عبر حليفه؟! إلا أن ذلك لم يؤدِ إلا الى المزيد من الدعم الروسي للنظام السوري.
وهناك مشكلة أخرى تتفاقم يوماً بعد يوم، وهي تتمثل في تدفق مهاجرين مسلمين الى روسيا من دول آسيا الوسطى التي استقلت بعد انهيار الشيوعية وسقوط الاتحاد السوفياتي. وهم يتجمعون في أكثريتهم في موسكو بحثاً عن فرص عمل. ويشكل هؤلاء مزاحمة لليد العاملة الروسية بسبب قبولهم بأجور متدنية. ونظراً لفقرهم فإنهم يلجأون الى الإقامة إما في أكواخ في ضواحي المدينة أو في محطات قطار الانفاق. ويلقى هذا الأمر رفضاً وإدانة من الروس. وبما أن هؤلاء المهاجرين هم في أكثريتهم من المسلمين، فقد ارتبط الموقف السلبي منهم بالموقف من الإسلام نفسه. وتصاعدت بسبب ذلك موجة «الإسلاموفوبيا» في روسيا بشكل كبير.. لتتلاقى مع الموجة المتصاعدة في أوروبا.
ورث الاتحاد الروسي عن الاتحاد السوفياتي السابق قوة نووية تضاهي القوة النووية الأميركية. ولكن معظم مناجم اليورانيوم موجودة في الدول الإسلامية في آسيا الوسطى: أوزبكستان، وطاجيكستان وغيرغيزيا التي يشكل المهاجرون من أبنائها الى روسيا الأكثرية الساحقة. وتقدر كميات اليورانيوم التي استخرجت من هذه الدول وحدها بحوالى عشرة آلاف طن!! غير أن هذه المناجم التي لم تعد صالحة للاستخدام اليوم لا تزال تحتفظ ببقايا من اليورانيوم في التربة. وتتولى الأمطار جرف هذه المادة المشعّة السامة الى الحقول والمزارع. ولذلك سجلت منظمة الصحة العالمية ارتفاعاً كبيراً في عدد المصابين بأمراض سرطانية من سكان الدول الثلاث. وتخشى هذه الدول من أن تجرف الأمطار بقايا اليورانيوم الى سهل فرغانا الذي يعتبر سلة الخبز لأكثر من 40 مليون انسان في المنطقة.
كل ما فعلته روسيا هو أنها وضعت علامات تشير الى مواقع الخطر.. تحذّر من الاقتراب من المناجم المفتوحة. ولكن هذه العلامات أكلها الصدأ ولم تعد تشكل منبهاً ولا رادعاً.. الأمر الذي أدى الى وقوع الكارثة.
حصلت غيرغيزيا على مساعدة من البنك الدولي بقيمة 8،4 ملايين دولار لجرف 150 ألف متر مكعب من التربة الموبوءة. ولكن ذلك لا يشكل سوى نسبة ضئيلة من التلال والأغوار والمناجم الموبوءة. إن أي انجراف للتربة كافٍ لنقل الكارثة الى سهل فرغانا الخصب. الأمر الذي يشكل كارثة انسانية كبرى. فماذا فعلت روسيا التي تحتفظ بالقنابل النووية المصنوعة من يورانيوم هذه الدول الاسلامية الآسيوية؟.. ان استمرار هذه المأساة التي تشكّل قنبلة موقوتة صحياً واجتماعياً واقتصادياً، تدفع بالمزيد من المهاجرين من دول آسيا الوسطى الى روسيا بحثاً عن الأمن والعمل.
على أن هؤلاء ليسوا المشكلة الوحيدة التي يواجهها الكرملين مع المسلمين. هناك مشكلة اخرى بدأت تفرض ذاتها من داخل المجتمع الروسي الارثوذكسي نفسه. فقد اعتنق الاسلام أفراد من الروس، بينهم على سبيل المثال قسيس أرثوذكسي سابق يدعى فياشسلاف بولوسين الذي اعتنق الاسلام في العام 1999. وهو يقول ان من أسباب تحوّل الروس الى الاسلام الزواج، ولكن في مقدمة الأسباب ان الاسلام يحرم تناول الكحول الذي يشكل آفة خطيرة تمزق العائلة الروسية وتمزق حتى المجتمع الروسي.
واستناداً الى القس السابق، فإن ثمة جماعات روسية تتحول الى الاسلام بسبب مبادئه الروحية والأخلاقية أو في ضوء نظرياته الاقتصادية المالية.
غير ان هؤلاء المسلمين الروس الجدد يقعون تحت دائرة مراقبة الأمن والمخابرات لأنهم يصنفون على الفور في دائرة الخطر على وحدة المجتمع وعلى الأمن الوطني. ومما يعزز هذه التهمة ان معظم المتحولين الروس الى الاسلام يعتنقون المذهب السني السائد في القوقاز حيث الصراع على الهوية الوطنية بين روسيا وشعوب المنطقة.
وتشكل قضية الشاب الروسي ماكسيم بيداك المتحدر من مدينة سان بطرسبرغ وهي المدينة التي يتحدر منها الرئيس بوتين نفسه أيضاً – نموذجاً. فقد شكل ماكسيم تجمعاً من الروس الذين تحولوا الى الاسلام في المدينة التاريخية لتنظيم شؤون علاقاتهم الاجتماعية والدينية (يوجد مسجد للتاتار في لينينغراد)، مما عرضه للوقوع مراراً في قبضة الشرطة بتهمة الإخلال بالأمن العام.
ورغم انه اعتُقل مراراً وأُخضع للتعذيب أثناء التحقيق معه كما يؤكد هو نفسه، لم تثبت عليه أي تهمة، وعومل كما يقول وكأنه «بن لادن». وتحت هذا الضغط المتمادي قرر الهرب ولجأ الى تركيا.
من الصعب أن تتقبل ثقافة تكرس تحول روسيا من الشيوعية الى الارثوذكسية، وتحول موسكو من عاصمة للفكر «الالحادي» الى عاصمة دينية مقدسة، اعتناق اشخاص من العنصر السلافي الدين الاسلامي. فالاسلام في الاتحاد الروسي لم يكن مرتبطاً بشكل أساسي بالشعب السلافي. كان مرتبطاً بالتاتار أو بمن تبقى منهم. وبالقوقازيين وبشعوب آسيا الوسطى. اما السلاف فلم يفتحوا قلوبهم للاسلام الا بشكل ضيق جداً. ولذلك فان ظاهرة التحول التي يتّسع مداها سواء على خلفية روحية أو على خلفية اجتماعية اقتصادية، بدأت تثير قلق الكرملين. ويفسر ذلك استخدام روسيا للفيتو في مجلس الأمن الدولي لاسقاط مشروع قرار باعتبار مجزرة سريبرينتيشا في البوسنة التي قتل فيها 8000 مسلم على يد الصرب الارثوذكس، إبادة جماعية.
ومما يعزز هذا القلق أيضاً أن صراع الكرملين مع الشعوب الاسلامية التي تطالب بالاستقلال عن الاتحاد الروسي مثل داغستان والشيشان وغيرهما، يُعطى بعداً دينياً بهدف الطعن في أبعاده الوطنية.
صحيح ان تكون الشيشان مثلاً جزءاً من دولة كبرى كالاتحاد الروسي هو أفضل من أن تكون دولة صغيرة وفقيرة منعزلة ومعادية لجارها القوي، ولكن الصحيح أيضاً هو أن احترام حرية الشيشان واحترام عقيدة أهلها الدينية واحترام حقها في التطور والانماء هو الاساس الذي يعزز ارتباطها بالاتحاد ويعزز ولاءها له.
فالإخضاع لم يحقق يوماً ولاء صادقاً ولا أقام يوماً علاقات ثقة.