الحكومة ستولد سريعاً. مَن يجرؤ على «تَزعيل» الرئيس إيمانويل ماكرون عندما تراه منظومة السلطة حبل النجاة لإنقاذ رأسها؟ كذلك، ستتبنّى الحكومة خارطة الطريق الفرنسية وتطلق تعهدات جديدة بالإصلاح… «يوماً ما» طبعاً. فما يهمّ هذه المنظومة هو أن «يُبيِّضها» ماكرون بعقد مؤتمر «سيدر 2»، بعد شهر، فتنفتح للمنظومة «حَنفية الدولارات» المسدودة… وإلّا فمَن سيصمد عندما ينفِّذ المصرف المركزي «تهديده» و»يرفع العشَرة» عن الدعم؟
في زيارته، لم يرغب ماكرون في استثارة أزمةٍ اسمها سلاح «حزب الله». إكتفى بتوجيه رسائل نيّات طيّبة إلى «الحزب»، تشجّعه على التنازل والعودة إلى الحالة اللبنانية… ولكن «بالتقسيط المريح». فـ»لا شيء يدعو للهلع».
وهذه الرؤية ترجمها الفرنسيون أخيراً بالتَمايز عن الأميركيين في ملفّين: النظرة إلى دور «اليونيفيل» جنوباً، ومعارضة التمديد للحظر على إيران.
على مستوى الاتفاق النووي، وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو «بَقّ البحصة»: «الأوروبيون ينحازون إلى إيران». وعلى الأرجح هو يبالغ من باب الضغط عليهم. ولكن، في الملف اللبناني، واشنطن وباريس أكثر تقارباً. الجانبان يعرفان أنّ الانهيار الكامل للدولة والمؤسسات يخلق فراغاً لا يملؤه إلا «حزب الله». فكيف يمكن ممارسة أقصى الضغوط على «الحزب، لإضعافه وإبعاد النفوذ الإيراني، من دون الدفع إلى انهيار لبنان؟
حتى داخل دوائر القرار الأميركي، هناك مناخات تتفهُّم «الاعتدال» الفرنسي إزاء لبنان، ولكن الاتجاه الغالب هو أنّ وصفة الاعتدال يمكن أن تسمح لإيران بتكريس نفوذها.
لدى الفرنسيين خشية من قيام إدارة ترامب بخطوات مفاجئة تجاه إيران. ففي الوقت الضيّق، قد تندفع إلى مواجهة ساخنة معها. أو على العكس، قد تبرم صفقة معها. وفي الاحتمال الثالث، قد ينتهج الأميركيون طريق المواجهة أولاً وينتهون بالصفقة. وفي كل الأحوال، تريد فرنسا أن تكون حاضرة في المنطقة، وأن تحافظ على التوازنات في لبنان.
لذلك، يتحرَّك ماكرون سريعاً. وفي تقديره أنّ مجرَّد دعم الدولة اللبنانية لبناء مؤسسات قوية سيتكفَّل بزوال فائض النفوذ الذي يتمتع به «الحزب». كما يمكن الرهان على تغيُّر في المناخ الإقليمي يبدّل من حجم نفوذه في لبنان.
ولكن، في المقلب الآخر، يسود اعتقاد بأنّ ما يريده ماكرون في لبنان شيء، وما يخطّط له «الحزب» وشركاؤه في السلطة شيء مختلف. هو يستعجل إلقاء حبل النجاة للبلد، وبتغطية أميركية مبدئية، فيما قوى السلطة تريد استغلال الحماسة الفرنسية لتواجه العقوبات الأميركية وتنجو بنفسها وتكرِّس نفوذ إيران.
لقد رعى الفرنسيون تركيبات التوافق في لبنان على مدى السنوات الأخيرة، لكن أتاحت رجحان كفّة إيران. ففي العام 2016، دفعوا حليفهم الرئيس سعد الحريري إلى صفقة مع «الحزب» وشركائه. وفي أزمة «استقالته» الشهيرة في الرياض، في تشرين الثاني 2017، سخَّروا رصيدهم لإنقاذ الصفقة، ثم جمعوا 11 مليار دولار من مؤتمر «سيدر» لإنعاش البلد. ولكن، عمليّاً هم أنعَشوا الصفقة.
لقد تمكّن «الحزب» من تكريس نفوذه في السلطة. وأما شركاؤه، الحلفاء والخصوم، فقد تقاضوا أتعابهم في شكل غنائم من مال الدولة ومواردها ومؤسساتها. ولو تُرِك الأمر للفرنسيين لاستمروا في المراهنة على الوقت منعاً لأي صدمة تؤذي لبنان، لكنّ واشنطن وحلفاءها العرب أوقفوا لعبة الدعم بلا شروط، فوقع الانهيار.
اليوم، يجرِّب الفرنسيون مجدداً إنتاج تسوية يقبلها الجميع. وهم تعهدوا لواشنطن بأنّ التسوية ستقلّص نفوذ إيران. لكنّ الأميركيين، وعلى قاعدة «العصا والجزرة»، لن يمنحوا التسوية ضوءاً أخضر إلا إذا تأكدوا أنها فعلاً ستحقق الهدف. وحلفاء واشنطن العرب يلتزمون هذا الموقف. وهنا يجدر التوقف.
فالمبادرة الفرنسية تصبح عديمة الجدوى إذا لم تفتح الجهات المانحة «حنفية» الدولارات المسدودة لتمويلها. وهذه الجهات جميعها تتحرك بالتناغم مع واشنطن لا مع سواها: السعودية، الإمارات، قطر، الكويت، اليابان، كوريا الجنوبية، ألمانيا وسواها… وطبعاً صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
هذا يعني أنّ الفرنسي يمكن أن يكون وسيطاً جيّداً، لكنّ المضمون يكتمل بالأميركي. فإذا جاءت حكومة أديب شبيهة بحكومة دياب، وتصرَّفت مثلها لصيانة مصالح إيران، فهذا يعني أنها لن تحصل على دولار واحد، وانّ أقصى طموحها سيكون استمرار «كراتين الإعاشة»… قبل أن تنتهي أيضاً بضربة «الطفَر» والجوع القاضية.
سيكون هاجس أديب أن يوفّق بين مراعاة الفرنسي الذي جاء به إلى السرايا، والأميركي الذي يمتلك امتياز التغطية السياسية والمالية الحقيقية، ومصالح العرب وإيران، وتوازنات القوى الطائفية والسياسية في الداخل.
وفي الخِضمّ، سيكون الموضوع المالي- النقدي- الاقتصادي هو الكابوس. ويمكن أن تبلغ الأزمة مداها عندما يضطر حاكم المصرف المركزي رياض سلامة إلى وقف دعمه للمواد الأساسية، ويعمُّ الجوع والغضب.
وفي أي حال، تختصر «عُقدة أديب» بعنوان أساسي: مِن أين ستأتينا الدولارات لننقذ الحكومة والبلد؟ ولمن سندفع الأثمان لتحقيق هذا الهدف؟
المتشائمون يقولون إنّ لبنان قد يغرق في لعبة انتظار جديدة، نتيجة فوارق التوقيت بين واشنطن وعواصم القوة في الشرق الأوسط. ولكن هناك مَن يتفاءل ويقول: فليطمئن اللبنانيون. إنها خاتمة أحزانهم، والحل بات قيد الولادة، على يد القابلة الفرنسية ورعاية الأميركيين والعرب. والدولارات آتية.
وستكون الإشارة الأولى تركيبة استثنائية لا مجال فيها للمحسوبيات بل للمستقلين و«الأوادم»، وسيكون هناك برنامج جريء وواضح لحكومة مصطفى أديب. فما فعله الطاقم السياسي بحكومة دياب سيعجز عنه اليوم. وعلى هذا الأساس، سينجح مؤتمر الدعم في باريس، وتنفكّ «دِكَّة» المانحين وتنفتح «الحنفية». وستكون زيارة ماكرون في كانون الأول لمواكبة الحلول.
ويضيف المتفائلون: عندما أطلق الرجل تهديداته بفرض عقوبات على المعرقلين، كان يقصد ما يقول. وعمداً، جرى أخيراً كَشف أوراق الكثير من «بابازات» السلطة، وإفهامهم بأنّ أحجامهم لا تسمح لهم بالتخريب، تحت طائلة المسؤولية. وهذه المرة، الوضع تحت السيطرة.
فأيّ من القراءتين أقرب إلى الواقع؟ انتظار الجواب لن يتعدّى الأسابيع القليلة.