في بغداد ما ينبئ بتحقيق خطوات متقدمة، وإن غير كافية حتى الآن لاستعادة الدولة الضمانة، بأطياف العراق المتعدد المتنوع، كما الدور الاقتصادي والحضور الإقليمي الذي بدأت ملامحه تظهر بوضوح وبصعوبة، منذ تولي حكومة مصطفى الكاظمي السلطة، مروراً بكل ما جهدت به على الصعيدين الداخلي والخارجي، مع كل ما رافق ويرافق ذلك من تحديات.
تعيش بغداد انطلاقة أولى لخطة النهوض الاقتصادي والهدف وضع القطار على سكة ستؤدي إن استكملت، الى حجز مكان للعراق في نادي النمور الاقتصاديين في المنطقة، الذين يتسابقون للاستثمار في الاستقرار، وتحويل الدول والمجتمعات الى واحات للتقدم والازدهار والنمو الاقتصادي، عبر اقتصادات الجذب، والخطط العشرية.
للعراق ايضاً خطته العشرية، وتسعى حكومة الكاظمي الى انجاز القسم الأول منها، بنفض البنية التحتية عبر تنفيذ مشاريع في ملف المياه والمواصلات، وتنتظر في ملف الكهرباء، الذي سيتلقى بفعل حضور رئيس الحكومة العراقي الفاعل في قمة جدة، جرعة كبيرة عبر اتفاقات الربط الكهربائي مع دول الخليج، التي هي جزء من استعداد خليجي لتوسيع نطاق الاستثمار في العراق في كل المجالات، وتلك نتيجة طبيعية لنجاح الكاظمي في إعادة بناء الثقة بالمؤسسات السيادية العراقية، في طليعتها المؤسسات العسكرية والأمنية، كما في البناء على دور اقليمي يمكن اختصاره في ارساء معادلة «صفر مشاكل» في العلاقات الخارجية للعراق، التي جهد الكاظمي لبنائها، وكان اول النجاحات ترتيب حوار برعاية عراقية، بين المملكة العربية السعودية وايران، وهو حوار تحيطه الحكومة العراقية بأقصى درجات التكتم، ضماناً لاستمراره، ومن غير المستبعد أن تعقد في بغداد جولات جديدة، وان يرتفع مستوى التمثيل فيها، الى المستوى الدبلوماسي بعدما اقتصر على الوفود الأمنية طوال جلسات الحوار السابقة التي انطلقت في العام 2021.
تتكامل سياسة حكومة الكاظمي بين حدّين: الاول داخلي يقوم على تحييد كل عوامل اللااستقرار وادواتها، اي رسم حد فاصل بين الدولة وقوى الأمر الواقع، وهذه مهمة صعبة لم تتحقق بنسبة عالية، الا بعد تجاوز مرحلة الانفلات الامني، واستعادة هيبة مؤسسات الدولة من دون اصطدام يؤدي الى نتائج عكسية. والحد الثاني يتمثل بالحياد في السياسة الخارجية ومحاولة بناء دور مستقل للعراق، مع تسجيل انفتاح كبير في علاقاته العربية وتعزيز مكانة الدولة. بين هذين الحدين تحفر حكومة الكاظمي جبل المشكلات بإبرة، لكن هذا المسار المستمر بثبات منذ سنوات، والذي قدم نموذجاً عن كونه الخيار الوحيد المتاح للخروج من الأزمات والاضطرابات السابقة، بات صعباً تجاوزه، لا سيما في ظل التعطيل المتعمد للعملية السياسية، والتخبط الذي يعانيه، الفريق الذي تولى السلطة منذ العام 2003 والى الأمس القريب.
في قراءة ليس الهدف منها المقارنة، يمكن في الوضع اللبناني ملاحظة هذا الفراغ الكبير، الناتج عن غياب سلطة حقيقية، يمكنها لو وجدت ان تقوم بدور مشابه لرحلة الألف ميل العراقية. فالقواسم المشتركة في أزمات لبنان والعراق تتشابه الى حد التطابق، بدءاً من غياب استقلالية القرار، مروراً بالسلاح غير الشرعي الذي يتحرك بأجندة وإمرة خارجية، وصولاً الى انتحار السياسة الخارجية، وخسارة العلاقات العربية والدولية، وبالتالي الكلفة الهائلة التي تدفع جراء هذا الاستتباع أو الانصياع، الذي ترجم بالغياب في كل المحافل العربية والدولية.
ما فعله رئيس الوزراء العراقي ولا يزال، يضع، من دون قصد، منظومة الحكم في لبنان امام مجهر يكبّر الصورة الحقيقية. فبموازاة المشاركة العراقية في قمة جدة، وبموازاة النجاح العراقي في رسم الخط الفاصل بين الدولة والقوى المسلحة غير الشرعية، تتلهى المنظومة بصراعات التقاسم والمحاصصة وتستقيل من دورها كسلطة تمتلك القرار، ويصبح لبنان ورقة مساومة، أشبه بمسيرة تقاد من طهران، ويصبح التساؤل بفعل هذا العبث مشروعاً عن موعد ظهور نموذج كاظمي لبناني، كي تبدأ رحلة الألف ميل اللبنانية، سعياً لاستعادة وطن مخطوف.