ما زالت الأجواء اللبنانية مشحونة بنتائج اقتراح الرئيس سعد الحريري المتعلق بترشيح النائب سليمان فرنجية لمنصب رئاسة الجمهورية، ذلك الإقتراح الذي أقام الدنيا ولم يقعدها بعد، واستمرت النتائج تتوالى على المسرح السياسي، مفيدة بأن هذه المحاولة ما زالت قيد التقاذف ما بين مؤيد ومعارض، وبقدر ما تتصف به من أهمية وجدّية في الطرح، خاصة وأنها حظيت بتأييد جهات داخلية ودولية جدية، مما أوحى في بداياتها بأن الأزمة الرئاسية قد وضعت على سكّة الحل الجدي، وأن يوم السادس عشر من كانون الأول سيكون موعدا ثابتا ونهائيا لانتخاب الرئيس العتيد.
ولكن محاولة الرئيس سعد الحريري لم تكلل حتى الآن مع الأسف بالنجاح المرتقب، وموعد الإنتخاب الذي حدده الرئيس بري في 16 كانون الأول، لم يكن ثابتا ولا نهائيا، وصحّ توصيف البعض لاقتراح الرئيس الحريري بأنه محاولة جريئة من قبله غامر من خلالها بالكثير من ركائزه الثابتة على مستوى الرابع عشر من آذار، خاصة بمكوناته المسيحية، فضلا عن بعض الإهتزازات التي لحظت في بعض الصفوف الإسلامية السنية والتي صدرت عنها تعليقات ومواقف في الإعلام، وفي منشورات وسائل التواصل الإجتماعي، وهذه المحاولة قد جمدتها ردّات الفعل التي اتسم بعضها بالشراسة، على درجة الصفر السلبية، خاصة على الصعيد المسيحي، لتنطلق جهود مطلقها ومؤيديها مجددا، للملمة آثار محاولات التفشيل عن معالمها وعن تضاريسها المعقدة، وفي الوقت الذي استمر فيه (الصمت الذهبي أو الماسي) لحزب الله، والترشيح الأوحدي المستفرس للجنرال عون، والرفض المسيحي بعنصريه الأساسيين، القوات والوطني الحر، لأية محاولة لترئيس النائب فرنجية، رغم كونه بين الأربعة الكبار المتعاهدين على إيصال أي منهم للرئاسة، برزت جهود كثيرة لإبقاء شعلة الحلول محتوية ما يكفي من الضوء والأثر حتى لا تنطفىء بصورة نهائية، خاصة وأنه يتبين يوما بعد يوم دور حزب الله في مرحلة وضع حد لمأساة الفراغ في السدة الأولى، وهو وضع يعيد الإشارة إلى إيران وتصميمها على الابقاء على حالة الشغور الرئاسي قائمة إلى أجل غير مسمى، بعد أن تبين بأنه ليس أجدى لها ولا أنفع من حالة الفراغ القائمة والمستمرة، حتى اذا لم تظهر لديها مؤشرات جدية بأن الوضع السوري سيستقر لمصلحة نظام الاسد، وإذا لم يتم حفظ حصة إيران في الفريسة السورية التي يلوّح الإحتلال الروسي لسوريا برغبته الجامحة بالإستئثار بها لسعيه إلى وجوده في المنطقة دون وجود آخر لسواه، يهدد مصالحه الإستراتيجية والاقتصادية فيها دون منافسة من أحد، خاصة من قبل الوجود الإيراني وملحقاته الميليشياوية، وخاصة بعد أن فشل هذا الوجود في درء خطر السقوط عن النظام السوري، وبعد أن استلحقه التدخل الروسي بشتى أنواع المنعشات.
وعليه ما زالت تتوالى جهود الإبقاء على شعلة إحياء استمرارية اقتراح الرئيس الحريري، من قبله ومن قبل قناعات وجهود مستجدة من مواقع المجتمع الدولي وبعض دول المنطقة الأساسية، وعلى الصعيد المحلي، حصلت إتصالات بهذا الخصوص في نهاية الأسبوع المنصرم بينه وبين عدد من الفاعليات في كل من 14 و 8 آذار، ولعل الإتصال الذي حصل ما بينه وبين الدكتور سمير جعجع، هو الأولى بالتوقف عنده، لأن الأثر الذي خلّفه اقتراح الرئيس الحريري في موقع وموقف القوات اللبنانية هو من الأهمية بمكان كاد أن يدفع بالعلاقات داخل 14 آذار إلى مهب الرياح المقلقة، خاصة بعد سلسلة من التعليقات التي صدرت عن بعض المصادر القواتية وكثير غيرها تم رصدها في وسائل التواصل الإجتماعي فضلا عن أقوال ورسائل غير معلنة للدكتور جعجع، دلّت على مدى ما خلّفه اقتراح الرئيس الحريري من أثر سلبي لدى «القوات» التي جاهرت في الكثير من أبواقها باتهامات التفرّد والابتعاد عن التقيد بالمبادىء الرئيسية لـ 14 آذار وكثير غيرها من التهم التي اتسم بعضها بالليونة والدبلوماسية وجاء بعضها الآخر على كثير من القساوة والإتهام الصارم والمباشر.
وبعد أن صرّحت مصادر قواتية بأن اتصالاً قد تم ما بين الشيخ سعد والدكتور جعجع استغرق وقتا طويلا، وبعد أن أشير إلى مجمل مضمون ذلك الاتصال، يمكننا أن نستنتج بعض جوانبه الأساسية التي أدت إليها جملة من التصرفات المتواجهة ما بين الفريقين، أبرزها من جانب القوات، فوران في المواقف والمآخذ التي ترى في تصرفات تيار المستقبل متمثلة خاصة بمواقف رئيسه، تفرّدٌ وبعدٌ عن روح الشراكة الحقيقية، بحيث لم يؤخذ برأي القوات في ما اقترحه الرئيس الحريري مطلقا، الأمر الذي أسماه القواتيون بالتراجع عن نهج 14 آذار المتوافق عليه ما بين فرقائه حول مبادئه الرئيسية خاصة ما تعلّق منها بالمبادئ السيادية للدولة على جميع أراضيها ومؤسساتها ورفض لمشاركة أي فيصل لبناني في الحرب المشتعلة على الأرض السورية والتي يذهب ضحيتها إلى جانب الشعب السوري شبان لبنانيون لا تربطهم بالمجازر القائمة هناك إلاّ سلبيات متمادية يخشى أن يمتد لهيبها المتنامي إلى الأرض اللبنانية وإلى شعبها وإلى سلامة أمنها الوطني. ويضيف القواتيون في مجالسهم الضيقة، إستعادة لمطالبهم بالحصول على مزيد من المقاعد النيابية المسيحية التي حفظها تيار المستقبل لمؤيديه، وترى القوات أنها هي الأولى بهذه المقاعد، وبالتحديد ما تعلق منها بدائرة بيروت الأولى وبعض المقاعد الشمالية، وقد وصلت المواقف من هذا الطلب القواتي إلى العلن مؤقتا وإن ببعض التكتم والحذر.
من جانب تيار المستقبل: تؤكد بعض مصادره أن القوات كانت على تواصل معه بخصوص المحاولة التي أطلق عليها صفة «الانقاذية»، بعد أن وصلت أحوال البلاد إلى حدود الخراب الكامل، دون أن يكون هناك بصيص أمل يتجاوز مرحلة الفراغات الحاصلة في الرئاسة وفي الحكومة وفي الإدارة كما وفي تجاوز المرحلة الإقتصادية الحرجة التي أصبح الوضع الإقتصادي اللبناني يقترب منها بنسبة عالية جدا من المخاطر الراهنة والمنتظرة وأن تهمة التفرد قد لحقت بالقوات منذ طحشة مشروع قانون الإنتخابات الأورثوذكسي دونما أي تشاور بخصوصه مع تيار المستقبل، وربما كان جانب من الرد القواتي على مواقف «المستقبل» من المقاعد النيابية المسيحية في بيروت وبعض المناطق الأخرى، مرورا بميثاق التفاهم القواتي/ العوني وبمحطات سلبية اخرى لا مجال للتطرق اليها جميعا في هذا المجال، يدخل أيضا في جملة مآخذ تيار المستقبل والتي كانت لها بعض الآثار الإهتزازية.
وفي الإنتظار، لم يتعب أي من الفريقين اللبنانيين المتواجهين من بذل مزيد من الجهود، المروّجة لمحاولة الرئيس الحريري لإيصال النائب فرنجية للرئاسة في مقابل الجهود الرافضة لهذه المحاولة والساعية لإفشالها.
ووسط كل المحاولات التفسيرية والتحليلية والإستنباطية، تقف «الحقيقة بعيدا عن الإطلالات الواضحة والمؤشرة إلى وضعيات المنطقة ومؤثراتها على الوضعية اللبنانية التي تلخصها التعليمات الاميركية إلى مواطنيها بوجوب الإمتناع عن السفر إلى لبنان في هذه المرحلة الحرجة، لأن أحدا لا يعلم متى تنفجر الأوضاع فيه بشكل فجائي وغير متوقع، ولإن الأوضاع هي فعلا كذلك، يمكن القول بأن محاولة الرئيس الحريري الإستباقية نحو درء المخاطر، ربما كانت على حق، وهي تسعى إلى استباق أية سيئات متوقعة.