في اللحظة التي أُقرّ فيها مبدأ الحوار بين «المستقبل» و«حزب الله» أُثيرت حملة مفتعَلة من طبيعة مزدوجة: تخويف المسيحيين من اتفاق المسلمين على حسابهم، والتصويب على السنّة من زاويتين: أنّ المشكلة تاريخياً مع السنّة لا الشيعة، وأنّ السنّة يتخلّون عن حليفهم المسيحي، فيما الشيعة يتمسكون بهذا الحليف، وذلك في رسالة للمسيحيين بأنّ الحليف الشيعي أفضل من الحليف السنّي.
الهدف من وراء هذه الحملة قديم-جديد: خلقُ هوّة بين مكوّنات ١٤ آذار المسيحية والإسلامية، و«شيطنة» أهل السنّة، وتصوير الحليف الشيعي مجسَداً بـ»حزب الله» بأنه الحليف المثالي ماضياً وحاضراً والذي يجب الشبك معه للمستقبل. وقد استفاد أصحاب هذه الحملة من بروز «داعش» من أجل الدعوة إلى طيّ الصفحة الخلافية مع الحزب، والتوحد معه لمواجهة الخطر المشترَك، وذلك عبر تحويل سلاحه من بندٍ اشتباكي إلى بندٍ إجماعي للدفاع عن لبنان.
وإذا كانت أهداف هذه الحملة معلومة، فإنّ أسوأ ما فيها بأنها مسيئة بحق المسيحيين، وذلك للأسباب الآتية:
أولاً، تصوير المسيحيين بأنهم من دون قضية ولا مشروع ولا رؤية، ويعيشون على هامش الحياة السياسية، وأنّ أولويتهم البحث عن الطرف الذي يؤمّن مصالحهم الضيقة والسلطوية والزبائنية، وأنهم على مقاعد الاحتياط بانتظار العرض الأفضل.
ثانياً، تسخيف الأزمة اللبنانية وتصغيرها بجعلها على موقع وزاري من هنا ونيابي من هناك وربما بلدي واختياري، فإذا أمّنه السنّي للمسيحي يصبح حليفه، وفي حال أمّنه الشيعي يصبح هو الحليف، فيما هذه الأزمة في عمقها وجوهرها تتعلق بالخلاف على نظرتين للبنان، بين نظرة تعتبره ساحة وممراً وملحقاً وأداةً وصندوقَ بريد، وبين نظرة تريده وطناً سيداً وحراً ومستقلاً ودولةً بكلّ ما للكلمة من معنى.
ثالثاً، المسيحيون كانوا في أساس إنشاء الدولة اللبنانية، وشكلوا تاريخياً رأس الحربة في الدفاع عن الفكرة اللبنانية، ودور لبنان وفلسفة الكيان اللبناني، وأهمية العيش معاً، ومعنى الشراكة المسيحية-الإسلامية، وبالتالي نقلهم من بناة الدولة وحراسها إلى باحثين عن مواقع نفوذ للنفوذ هو إهانة ما بعدها إهانة للمسيحيين.
رابعاً، تصحيحُ الخلل التمثيلي على مستوى السلطة هو واجب وحق مسيحي، وليس منّة من السنّي أو الشيعي، وتصحيحه يتمّ من بوابة قانون الانتخاب لا عن طريق تمنينهم بمنحهم جوائز ترضية.
خامساً، تصحيح التمثيل لا يجب أن يكون هدفاً بحدّ ذاته، لأنّ الهدف هو تصحيح التمثيل المسيحي ضمن مشروع سياسي لبناني. فما قيمة الصوت المسيحي إذا كان ملحَقاً بمشروع خارجي لا يمت إلى لبنان بصلة، إنما أهميته بتأثيره وترجيحه خيارات لبنانية. فالحرب التي شُنّت على المسيحيين على امتداد ثلاثة عقود كانت من أجل حملهم على التخلي عن سيادة لبنان واستقلاله.
وكلّ أهمية المسيحي اللبناني تكمن في صناعته تجربة فريدة عن المحيط، ويفقد قيمته في اللحظة التي يتخلّى فيها عن هذه التجربة لمصلحة تجارب لا تشبهه كمسيحي يرفع لواء الدفاع عن حقه كإنسان بالعيش حراً بعيداً من ثقافة الموت والعنف والقتل.
سادساً، الخيار لم يكن يوماً ولن يكون بين أيّ حليف أفضل من الآخر، إنما الخيار كان وما زال وسيبقى مع أيّ لبنان نريد؟
سابعاً، الانقسام كان وما زال حول الخيار التاريخي للمسيحيين، من «لبنان أولاً» إلى «الدولة أولاً» وما بينهما تحييده عن أزمات المنطقة، وبالتالي حرف الأنظار عن المشكلة الحقيقية هو تزويرٌ للوقائع والحقائق من أجل إبقاء لبنان ساحة مُستباحة.
ثامناً، الخلاف تاريخياً في لبنان كان مع السنّة، وهذا كلام صحيح، والخلاف معهم كان على غرار الخلاف مع «حزب الله» اليوم حول دور لبنان، ولكن الصحيح أيضاً أنّ المسيحيين وعلى رغم هذا الخلاف نجحوا مع السنّة في إنشاء لبنان الكبير وإعلان ميثاق العام ١٩٤٣ وتجاوز أزمة العام ١٩٥٨ وإبرام اتفاق الطائف، فيما التسوية الوحيدة التي نجحوا في التوصل إليها مع «حزب الله» هي اتفاق الدوحة الذي انقلب عليه في أول فرصة.
تاسعاً، «حزب الله» على استعداد للتخلي عن مقاعد الشيعة في البرلمان والحكومة لمصلحة كلّ الطوائف اللبنانية في حال انخرطت في مشروعه الإقليمي الذي لا علاقة له بلبنان ووفرت له الغطاء لهذا المشروع، وبالتالي أولوية الحزب ليست الصراع على السلطة من أجل السلطة، إنما الصراع على السلطة لتوفير الغطاء لمشروعه.
عاشراً، الحليف الفعلي للمسيحيين هو كلّ فرد أو جماعة يتقاطع معها على مشروعه التاريخي المسمّى لبنان، وبالتالي تحالفهم مع «المستقبل» طبيعي وبديهي، لأنّ هذا التحالف يدخل في سياق المشروع ذاته. فالأولوية هي للتقاطع على الثوابت الوطنية المشترَكة وليس المصلحة الزبائنية المشترَكة، وبعد هذا التقاطع يُصار إلى ضبط الجموح السلطوي الطبيعي لكلّ طرف من خلال قانون الانتخاب.
ويبقى أنّ منظمة التحرير كانت على كامل الاستعداد لإسكات كلّ الأصوات الإسلامية المطالبة بتصحيح التمثيل لو وافق المسيحيون على تغطية مشروع المنظمة في لبنان، كما أنّ النظام السوري كان على كامل الاستعداد لإعادة امتيازات الجمهورية الأولى وما يزيد إلى المسيحيين لو وافقوا على تغطية استمرار جيشه في لبنان، وبالتالي ما رفضه المسيحيون مع الفلسطينيين والسوريين لن يقبلوه مع «حزب الله».