IMLebanon

قصتي الجميلة مع جريدة «الحياة»

 

هذا آخر مقال لي في «الحياة»، الصحيفة العريقة والتجددية التي التحقت بها قبل 28 سنة عندما انطلقت من لندن بزخم نادر في الصحافة العربية. كان ذلك عام 1989 وكنت أنتقل من العمل في مجلة «الحوادث» إلى «الحياة» ذلك الصيف الخيّر الذي أتى عليّ برحلة مهنية رائعة لنحو ثلاثة عقود بدأت في بلغراد، عاصمة يوغوسلافيا حينذاك.

وظّفني جميل مروة وكان جهاد الخازن رئيس التحرير ولم أكن على علم حينذاك بأن الأمير خالد بن سلطان كان شريكاً أساسياً في «الحياة» التي أعاد إطلاقها من لندن أبناء الرؤيوي في عالم الصحافة كامل مروة الذي أسسها في بيروت.

القصة جميلة ليس فقط لأنها تعني لي كثيراً من الناحيتين الشخصية والمهنية وإنما بسبب أبعادها ومركزيتها في عالم الصحافة. فبعدما تم توظيفي في لندن كمديرة مكتب نيويورك وككبيرة المراسلين الديبلوماسيين، كان يُفترض أن أبدأ العمل منتصف أيلول (سبتمبر)، فتوجهت إلى جنوب فرنسا للاستراحة قبل بدء العمل في نيويورك. وكما هو معروف، يتواجد اللبنانيون بكثرة في مدينة كان في شهر آب (أغسطس)، ومن بينهم جهاد الخازن.

كنت أقرأ «الحياة» على شاطئ أعتقد أنه كان «غراي دالبيون» واكتشفت أن قمة عدم الانحياز ستعقد في بلغراد بعد أيام. أيامها لم يكن الهاتف الخليوي في المتناول كما الآن، فنهضت وطلبت استخدام هاتف المطعم واتصلت بجهاد الخازن لأسأله إن كان ينوي إرسال أحد إلى قمة عدم الانحياز ولأشجعه على إيفادي لأنني كنت غطّيت عدداً من قمم عدم الانحياز بتشجيع دائم من ناشرة «الحوادث» أمية اللوزي. وافق الخازن فوراً على الفكرة فغادرت المسبح والاسترخاء إلى بلغراد والعمل بلا انقطاع لثمانية أيام بنوم لا تتجاوز فترته ثلاث ساعات ليلياً.

باركني الله وحالفني الحظ واستطعت تسجيل حدث إعلامي تاريخي لا سابقة له لا في الصحافة العربية ولا في الصحافة الدولية. ففي غضون ثمانية أيام أجريت أحاديث حصرية مع عشرة رؤساء دول وحكومات ومع ثمانية وزراء خارجية من بينهم وزراء «الطائف» الثلاثة الذين نشرت «الحياة» المقابلات معهم في عدد واحد في سبق إعلامي.

اضطرت «الحياة» إلى نشر حديثين في عدد واحد يتم عادة نشر كل منهما في عدد وذلك تجنباً للإحراج. كان ذلك عندما أجريت حديثاً مع العاهل الأردني الملك حسين وحديثاً مع الرئيس المصري حسني مبارك في اليوم ذاته. فما كان أمام «الحياة» سوى نشرهما في عدد واحد.

شملت الأحاديث مع الرؤساء ورؤساء الحكومات أمثال راجيف غاندي من الهند، وأورتيغا من نيكاراغوا، ومنعم من الأرجنتين، ونجيب الله من أفغانستان، وشملت من العرب عمر البشير من السودان، ونائب الرئيس العراقي طه ياسين رمضان في حديثين عنيفين لكل منهما قصته الطويلة.

أذكر أنه لدى عودتي إلى لندن بعد ذلك الزخم في أول إنتاج لي في صحيفة «الحياة» طلب مني جهاد الخازن أن أستعد للقاء شخص مهم جداً يريد التعرف إليّ. قال: توجهي إلى نيويورك الآن إنما استعدي للسفر إلى لندن مجدداً حالما أُعلمك بضرورة العودة، وهكذا كان.

عندما أدركت أن الشخص المهم جداً هو الأمير خالد بن سلطان علمت أنه اطلع على إنتاجي الأول في الصحيفة وأراد لقائي ليشكرني ويشجعني على المضي بجرأة السؤال. قال لي حينذاك ضاحكاً إن لديه طلباً واحداً فقط هو ألاّ أجري حديثاً معه تحت أي ظرف كان.

الحق يقال إن الأمير خالد لم يتدخل يوماً في أي ناحية من إنتاجي لـ «الحياة» إما بصيغة الأحاديث أو بصيغة الخبر أو بصيغة المقال. بل إن الأمير خالد كان يقول تعليقاً على مقالي: أنا أقود التحالف في حرب العراق، وراغدة تنتقدها وتعارضني في جريدتي.

لا مجال هنا في المقال الوداعي لسرد سيرة مهنية طويلة أو للحديث عن علاقة عائلية جميلة مع عائلة ناشر «الحياة». فلقد أجريت مئات الأحاديث الحصرية مع صنّاع الحدث وصنّاع القرار على الصعيد الرئاسي والوزاري ولقد استمتعت بالثقة التي أغدقت «الحياة» بها علي، ومكنتني من بلوغ مستوى مهني أفتخر به شمل مئات من السبق الصحافي الذي انفردنا به في الجريدة.

هذه الصحيفة لها فضل عليّ لا يمكنني سوى أن أكون في غاية الامتنان لأصحابه. أمضيت ثلاثة عقود من عمري في جريدة رفعت الرأس عربياً وعالمياً وكانت دوماً سبّاقة إلى التجدد بمهنية وصدقية عالية. فكلي فخر بأن أمضيت 28 سنة كجزء أساسي من عائلة «الحياة».

أريد في هذا المقال الوداعي أن أتوجه بالامتنان، بصورة خاصة، لكل قارئ رافق مسيرتي في «الحياة» وأغدق علي الثقة والتشجيع على الاستمرار في الجرأة والصدقية. لكل قرائي الذين قالوا لي دوماً: ننتظرك كل يوم جمعة في «الحياة». أقول: أنتم رصيدي ومرجعيتي وزينتي وأنا في غاية التقدير لكم. وسأشتاق لكم كثيراً. سأشتاق إلى اقتران اسمي بجريدة «الحياة».

إنما حان وقت الوداع. لعله فراق عابر أو فراق دائم، المهم أني أتمنى كل التوفيق لهذه الجريدة التي كانت جزءاً أساسياً يومياً من حياتي على كل الأصعدة. إنها مسيرة عمر شيقة المحطات.

قرّاء «الحياة» مدرسة بحد ذاتها لأنهم من خيرة العقول وهم يرفعون الفضول إلى عتبة عالية. لقرائي أقول: أنتم من كان لي بالمرصاد خفية كلما جلست لكتابة سطر أو طرح سؤال لأنكم أنتم ميزان الصدقية التي استحققتها أو لم أستحقها كل مرة كتبت فيها مقالاً أو أجريت حديثاً. تواصلي معكم كان لي الحافز لأتعلم منكم ولأوصل إليكم ما تتوقعون مني إيصاله من معلومات وتحليل ورأي واستجواب. فلكم كل الشكر يا أعزائي وأتمنى عليكم أن تتابعوني لتعرفوا أخباري وتخبروني عنكم من خلال تويتر @raghidaderghan فدعونا نبقى على اتصال.

أخيراً، لسمو الأمير خالد بن سلطان ناشر «الحياة» ونائب الناشر الأمير فهد بن خالد، أتمنى لكما ولفريق العمل والزملاء كل التوفيق والنجاح، وأقول: كل الشكر لكما وكل الاعتزاز بعلاقاتنا المهنية والعائلية. وإلى اللقاء.