عقد الزيجات المدنية في لبنان مطلب قديم. رفع لواءه في خمسينات القرن الماضي المحامي والنائب والزعيم ريمون اده، وأعلنت نقابة المحامين يومها اضراباً مفتوحاً بغية الضغط على مجلس الوزراء لاقراره. لكن وبعد ثلاثة أشهر “فكّت” الاضراب بعدما لمست استحالة تحقيق مطلبها. والسبب كان عدم موافقة الطوائف اللبنانية وفي مقدمها الاسلامية عليه باعتباره يمسّ جوهر الاسلام. منذ ذلك التاريخ أدرك “حكّام” لبنان وسياسيوه وأحزابه وزعماؤه أن الطريقة الوحيدة لإتمام الزواج المدني، المنطلِق من اقتناع بالدولة المدنية أو العلمانية أو من حرص على حلّ مشكلة زواج المسلمة من غير مسلم، الذي تؤكد الغالبية الساحقة من المرجعيات الدينية المسلمة عدم جوازه شرعاً، أدركوا أن الطريقة الوحيدة هي الاعتراف به بعد عقده خارج البلاد. وفعلوا ذلك مُظهرين بُعْد نظر وحرصاً على تفادي مشكلة طائفية في البلاد، ورغبة في انتظار ظروف ملائمة مستقبلاً تسمح باقامة الدولة المدنية، أو الدولة العلمانية، أو على الأقل بتشريع الزواج المدني الاختياري في لبنان. وساعدهم على ذلك جو التسامح بين الطوائف والاستقرار السياسي والأمني على رغم بعض الخضّات التي هزّته. علماً أن تزعزعه بين عامي 1969 و1975، فتح الباب أمام حروب أهلية متنوعة بين المسلمين والمسيحيين وداخل كل منهم كما أمام حروب اقليمية ودولية، كان اللبنانيون فيها مقاتلون بالوكالة. وذلك كله لم يلغ الاتفاق الضمني وغير المكتوب على تشريع الزواج المعقود في الخارج. والدليل أن الذين بدأوا حياتهم العائلية انطلاقاً منه يقدَّر عددهم بالمئات وربما أكثر. ومُذّاك حتى اليوم، لا أدري اذا كان تقديره بالآلاف صار ممكناً. والدليل أيضاً أن الغالبية الساحقة من رافضيه لم تحاول يوماً القضاء على هذا المخرج اقتناعاً منها بأن العيش المشترك لا بد أن يوصل أفراداً من طوائف مختلفة الى زواج تحرِّمه أو ترفضه. وعندما حاول الرئيس الراحل الياس الهراوي بعد الحرب “النفاذ” بقانون زواج مدني اختياري باقرار مشروعه أولاً في مجلس الوزراء ولاحقاً في مجلس النواب منعه المسلمون من ذلك بقيادة معتدليهم، وماشاهم المسيحيون وان كانت غالبيتهم لا ترى غضاضة ضمناً في اقراره، وذلك حرصاً على العيش المشترك والتوافق الاسلامي – المسيحي. واستمر “مخرج” الخمسينات للزواج المدني في الخارج سالكاً ومقبولاً.
الا أن التطور الذي حصل منذ أكثر من سنة كان محاولة عدد غير كبير من الناشطين، فرض اجراء الزواج المدني في لبنان. شجَّعهم على ذلك كاتب عدل أو أكثر مقتنع به أو بأنه قانوني، ووزيرا داخلية ضغطا لتسجيل الزواج. فشرّعا بذلك سبع زيجات. أما الزيجات التي أعقبتها ويقدَّر عددها بـ 54 أو أكثر قليلاً فرفض وزراء آخرون للداخلية تسجيلها لعدم وجود قانون يسمح بذلك. بدأت التظاهرات الاحتجاجية وكشفت غياب الحشد النخبوي والشعبي المؤيد لها. فاستعاض منظموها عن ذلك بتكبير الكلام، علماً أن آخر واحدة غاب عنها أكثر من 40 “تزوَّجوا” مدنياً في لبنان.
ماذا يعني ذلك؟
يعني أولاً أن الجو الطائفي والمذهبي المحموم في لبنان لا يسمح باقرار قانون مدني اختياري، ولا بتسجيل زيجات مدنية في غيابه وان استناداً الى القرار 60 الصادر في 13/3/1936 الذي لا ينطبق على هذه الحالات. ويعني ثانياً أن الاصرار على الأمر سيدفع الطوائف والمذاهب المعبأة الى اقفال “المخرج” المعتمد منذ الخمسينات أي تشريع الزواج المدني المعقود في الخارج. وفي ذلك خسارة كبيرة.
طبعاً أنا لست ضد الزواج المدني فأنا أعيش في ظله سعيداً منذ نحو 44 سنة. لكنني لا أوافق على زواج في لبنان غير معترف به يخلِّف مشكلات عدة أبرزها: أولاد ولاحقاً عائلات غير معترف بهم، أو يدفع الذين قاموا به الى “عودة الابن الضال” الى طوائفهم والمذاهب. كما أنني لا أقبل مخرجاً طُرح أيام الراحل الياس الهراوي وهو ايجاد طائفة رقمها 19 ينضم اليها المتزوجون مدنياً في لبنان. ذلك أنها ستكون أصغر الطوائف عدداً. وسيعاني أبناؤها نقصاً في تمثيلهم السياسي والوطني والوظيفي في الادارة العامة. علماً أن الظروف الراهنة لا تشجّع أبداً على خوض معركة مدنية خاسرة لا أحد يعرف من يُحرَّض عليها. فالدول في المنطقة ومنها لبنان تكاد أن تتفتّت على أسس مذهبية وطائفية ودينية وعرقية. وليس حكيماً فتح أبواب جهنم والظلام على المعتدلين وعلى المدنيين وهم كثر في لبنان، وعلى العلمانيين.