IMLebanon

أزمة ترشيحين وحسابات مكشوفة

أي فريق سياسي لبناني ليس مأزوماً اليوم؟ أقله في موضوع الاستحقاق الرئاسي. وقد يكون من المفيد عرض تلك الأزمات واستعراض أوضاع أصحابها بصراحة:

فريق الحريري، مع حلفائه التقليديين والمستجدين، اصطفوا خلف مرشح رئاسي اسمه سليمان فرنجية.

اصطفاف يبدو بعد أربعة أشهر ونصف أنه في ما يشبه الأزمة. على الأقل، بات أصحاب هذا الترشيح يدركون أن إيصاله إلى خواتيم إيجابية يلامس المستحيل. لا بل بدا واضحاً أن مسألة انتخاب رئيس لا علاقة لها بنصاب دستوري ولا بنصاب سياسي. بل هي مسألة أكثر تعقيداً وحساسية. حتى أن العريس المرشح لا يحضر «عرسه». فيما يحكى أنه إذا حضر، سيغيب حتماً مكوّن آخر من حلفائه وحلفاء تركيبة ترشيحه… لمجرد أن الانتخاب ليس مسألة حسابية رقمية بحتة.

ولأن هذا ظاهر الأمور عند هذا الفريق، بدأت تظهر التفسّخات. السفير السعودي أمس تحدث عن لا إجماع. بعد بيانه الشهير في تشرين الثاني الماضي بعد أيام على لقاء باريس، الذي تحدث عن وجوب الإجماعين الوطني والمسيحي من أجل ضمان الانتخاب. وليد جنبلاط انكفأ. يحكى أنه سمع في باريس أن المسألة معقدة وطويلة. فاكتفى بالتغريدات الرمزية. نبيه بري صمّام أمان مزدوج. يضمن لفريق ترشيح فرنجيه استمرار هذا الترشيح. ويضمن لحزب الله نفاذ موقفه… تقفل الحلقة هنا إذن على مأزق. لا جديد منذ أشهر حتى الآن. شهر نيسان الحريري مرشح للحاق بمواعيد كل الترشيحات الأخرى. والأخطر بالنسبة إلى الحريري على هذا الصعيد، أنه استنفد آخر أوراقه الرئاسية بترشيح فرنجية. لا سياسياً، بل أدبياً على الأقل. هو الذي انتقل من ترشيح سمير جعجع إلى ترشيح جاره اللدود. مع محطة حوارية بينهما، مع ميشال عون نفسه، الحليف ــــ الخصم لجعجع، والخصم ــــ الحليف لفرنجيه. مفارقة سوريالية، لا بد أن تجعل الحريري، معنوياً ونفسياً وربما أخلاقياً، في موضع من صرف آخر أوراقه الرئاسية… ما تبقى استمرار بحكم قوة الاستمرار لا غير، لمواقف واصطفافات وتموضعات باتت بحكم العقيمة.

في الجانب الآخر، هناك ترشيح ميشال عون، من قبل شخصه وتياره أولاً، كما من قبل آخر حلفائه الباقين وأول حلفائه الجدد. الترشيح هنا عمره عامان. ولا يزال صامداً. عرف كل مراحل الصعود والهبوط. من انطباع الاتفاق مع سعد الحريري أو وهمه، إلى الاستيقاظ على كابوس ترشيح الحريري لفرنجية. ومن نزوله إلى المجلس ومنازلته لترشيح سمير جعجع ولو بورقة بيضاء، إلى تأييد جعجع لترشيحه، قبل حلول المصيبة الفرنجية المشتركة، أو بعد فوات الأوان، بحسب بعض القارئين. لكن في الحالتين، بدا ترشيح ميشال عون وكأنه شيء مزدوج بين الثابتة والعقدة. الثابتة التي لا يمكن لأحد القفز فوقها. والعقدة التي يحكى همساً أنها باتت تتعب كثيرين. فضلاً عن الالزام المبدئي لعون، بعدم تسهيله أي ترشيح ثالث لقيط، بعدما واجه ترشيح «ابنه». وهو ما جعل الأزمة أيضاً عنوان هذا المعسكر. خصوصاً لجهة الخشية من عودة سندروم الإحباط المسيحي الشهير. ذلك أن احتفالية معراب في 18 كانون الثاني، شكّلت لأصحابها متنفساً اعتبروه تاريخياً. حتى أنهم بدأوا يحسبون به مواعيد القطاف، في أولى جلسات شباط أو آخرها على أبعد تقدير. فيما يطل نيسان والحسابات باتت كما المواعيد عرقوبية. وهو ما ينذر بتكوين انطباع متجدد لدى أكثرية مسيحية ساحقة، أنه إذا كان إجماع قسم كبير من المسيحيين على مرشح، عاجزاً عن إيصاله، عندها ماذا بقي لهؤلاء في الدولة والنظام والوطن؟! ما يفتح باب أمام الانفعالات المتطرفة، والمشاعر الطرفية. إلا إذا كان البعض يعتقد أن بإمكانه معالجة ذلك مؤقتاً، بصرف الإجماع المسيحي على موظف من الفئة الرابعة في «النافعة»، أو على رابطة المآدب المارونية!

هكذا تظهر الأزمة الرئاسة هنا أيضاً. أزمة يخفف منها، أو يزيدها تعقيداً، ثبوت أن ترشيح عون لا يمكن لأي قوة أن تتخطاه. فهو بات يملك قدرة مطلقة على صد أي ترشيح آخر. خصوصاً بعد تجربة ترشيح فرنجية. لكنه لا يزال يبحث عن قدرة ولو نسبية لإحداث الخرق في صفوف غير المؤيدين له. خرق تبدو احتمالاته محدودة. على الخط الحريري صعوبة تلامس الاستحالة. أما على خط بري، أو جنبلاط أو فرنجية أو الكتائب، فالظاهر المضمر أن ثمة سلسلة واحدة تربط الأربعة، لم يدرك عون مفتاحها بعد، أو أدركه ولم يقبل بدفع ثمنه بعد.

ماذا يبقى للطرفين؟ المراوحة وإدارة الفراغ والتكيف مع الجمود. وهو وضع تنبئ السوابق التاريخية أنه لا يكسر إلا من خارجه. فيما الخارج مفتوح على حسابات أكثر تعقيداً، كما على حساسيات لا تقل تنفيراً. وهو ما يبدو أن الطرفين ذاتيهما يدركانه تماماً. لا بل هما يتحضران لعبور صحرائه ويستعدان لتحمل آجال انتظاره. مع فارق أن المعسكر الحريري يراهن فيه على الوقت والعمر. وهو ما قيل صراحة لدبلوماسي غربي كبير. فيما معسكر عون يراهن على الصمود حتى الإنهاك، مطمئناً بوثوق مطلق إلى كلمة السيد حسن نصرالله… في الخلاصة، من يربح: رهان الموت أو صمود الإنهاك، أو احتمال ثالث مجهول؟ إنه الامتحان الأكثر قسوة في تاريخ لبنان السياسي.