«ولا خير في خيرٍ ترى الشر دونه
ولا نائلٍ يأتيك بعد التلدّد
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضةً
على المرء من وقع الحسام المهنّد»
في طفولتي، في مسقط رأسي بباب التبانة، كانت التظاهرات المطلبية تحمل شعار «طرابلس بئر الحرمان»، وتنطلق من داخل الزواريب الضيّقة وبيوت التنك والحارات التي تجري المياه الآسنة على جنبات طرقها.
«رصّوا الصفوف سبعة سبعة»، وهتافات وأهازيج، وشبان يعتلون أكتاف رفاقهم ويتناوبون كل بدوره حتى يصلوا الى ساحة التل لتلاقيهم خراطيم مياه السلطة، ليعودوا فرحين بثيابهم المبتلة، ويروون التفاصيل المملة عن مغامراتهم وبطولاتهم… كنت طفلاً في تلك الأيام، وكنت أنصت لهم وهم يجتمعون في متجر والدي الكائن في شارع سورية الذي تحوّل إلى خط تماس بين فقراء يسكنون على جانبي الطريق. كان الشبان يتحدثون عن كل شيء، عن الثورة الأممية، عن الخبز لكل الناس، عن السلام يعمّ البشرية، عن العدالة الإجتماعية وعن دولة من دون فاسدين وتجار وسارقين!
ولم أسمع يوماً منهم كلاماً يشبه الطائفية ولا المذهبية، لم أسمع أياً منهم يتحدث عن دولة إسلامية، أو قلعة للمسلمين! وكان من يلمّح ولو عرضاً إلى شيء كهذا، يُبعد تماماً ويوصم بالعمالة للرجعية والإستعمار. كان بعضهم يتحدث، وبصدق بالغ، عن تأثير حراك باب التبانة على قرارات «الرفيق» ماو، وتشي، وفيدل، وهوشي منه… وصولاً إلى مارتن لوثر كينغ.
كانت مدينتي فرحة رغم الفقر والحرمان، لأنّ عيون شبابها كانت تلمع، بل تقدح بالغضب المتفائل بالأمل في أن النضال لا بدّ سيصل إلى تحقيق العدالة المنصفة للناس، لكل الناس، بصرف النظر عن دينهم وجنسهم!
كان هذا إلى أن حلّت على مدينتي لعنة التخلّف والجهالة المتلبسة ثوب الإسلام الذي أطلقته الثورة في إيران، وظنّ البعض أنّ بإمكانهم تقليدها أو الإقتداء بها. فاغتصب الجهّال تاريخ المدينة، وصادر الرعاع حاضرها، فتركوا الوشم المحرق على ظهر أبناء المدينة أوثاناً نصبوها في الساحات، يوم كان التافهون يتجولون بلباسهم الأسود على ظهور الجياد وعلى أكتافهم رشاشات وقاذفات قنابل نشرت الرعب المقدس بين البيوت الضيّقة، فمات الفرح، وانطفأ الأمل، وحلّ اليأس بعباءة سوداء غطّت القلوب والعقول، فرُفعت الشعارات الظالمة في الساحات لتؤكّد عزل المدينة عن الوطن والثقافة والعالم، صارت طرابلس «غيتو» يحكمه المتخلّفون الظلاميون.
من يومها، تحوّلت طرابلس «قلعة» طائفية مسوّرة بالجهل، جدران من التخلّف المقدّس صارت أسواراً حجبت حقيقة أبناء المدينة وخنقت فيهم حتى أرواحهم، فحاصرت الأمل والفرح، وعندما سُدّت كل الأبواب، هدأت المقاومة، وهاجر المقاومون أو سقطوا في فخ مبدأ «إن خشيت عضة الكلب قل له يا سيدي الكلب!».
حرم السور طرابلس من نِخَبها التعدّدية، ومن تجمعاتها الثقافية، وصار شبابها يكرهونها، وشيبها يهربون كل ليل سبت جنوباً إلى البترون أو جبيل أو جونية، باحثين عن فسحة حرّية، ليس إلّا! طرابلس الضحية الثكلى الحزينة، وقعت بين مطرقة الجهل والتطرّف والظلامية، من جهة، وسندان الإستهداف السياسي والأمني والإجتماعي والإقتصادي والإعلامي، من جهة أخرى.
فبدل أن يمدّ أبناء الوطن أيديهم لانتشالها وتضميد جراحها، صارت عنزتهم السوداء، فعزلوها وكأنّها عار أو مرض معدٍ، فصار تعبير «قندهار لبنان» لعنة تلاحقها على مدى عقود، فصار الطرابلسي رديفاً للأصولي والوهابي والمتطرّف والمتعصّب… ولم يحاول إلّا قلّة من الناس، في مناطق أخرى، الدفاع عنها، أو الدفاع عن أصدقاء منها يعرفهم من الجامعة أو العمل، أو حتى بالصدفة في مطعم أو مرقص. كانت الجملة التي تتردّد على مسامعنا في غربتنا في وطننا «غريب! لا تبدو أنك طرابلسي!» لمجرّد أننا نلبس ونشرب ونأكل ونتصرف، أو حتى نفكر، مثلنا مثل إبن بيروت أو زحلة أو صور…
الكارثة الكبرى كانت، ومع علمهم بحقيقة الأمور، أنّ بعض المستفيدين المتاجرين والمستثمرين في تشويه صورة المدينة، ساهموا بشكل مباشر، أولاً بإزكاء نار الفتنة من خلال تسليح أطراف ضد أخرى في تلك الحرب الطويلة المقيتة التي حاصرت أبناء المدينة بأكثريتهم الساحقة، من خلال محور الموت المسمّى «باب التبانة – بعل محسن». وثانياً بخروجهم هم ذاتهم ليعيروا المدينة بأكثريتها المذهبية بأنّهم داعشيون وهابيون إرهابيون ومتعصبون…
اليوم ضمّت طرابلس الوطن بأجمعه في ساحة كانت تأسرها منذ أسابيع، فنشرت الضياء على كل لبنان فصارت هي عروس الثورة، بعد أن استرجع الناس شوارعهم وساحاتهم من الرعاع، وأعادوا ألق المدنية إلى الحراك، ولونوا الثورة بعلم لبنان. تلك هي مدينتي التي أعرفها وأحبها، تلك هي طرابلس.