IMLebanon

تجربتي مع الفراغ الرئاسي الأول

كان الرئيس الحص رئيساً لحكومة مستقيلة خلفاً للشهيد رشيد كرامي. وبدأت الاختلافات حول شخصية الرئيس الذي يمكن أن ينتخب لرئاسة الجمهورية. ذكر يومها أن البطريرك نصرالله صفير أرسل إلى دمشق 5 أسماء من قادة الموارنة لكي يتم اختيار واحد منهم لرئاسة الجمهورية ودخل الأميركيون بواسطة السفير ريتشارد مورفي للتوصل إلى اسم معين. وأتى إلى دمشق للقاء الرئيس حافظ الأسد. وفي اليوم نفسه طلب مني الرئيس سليم الحص، وكنت المكلف الدائم بالعلاقة بينه وبين نائب الرئيس عبد الحليم خدام، أن أتوجه إلى دمشق للقاء خدام والاستئناس منه حول من هو الاسم المرجح.

ذهبت ليلاً إلى مكتب خدام حيث التقيت الصديقين مروان حمادة والياس سابا وبدأنا النقاش.

قال لنا «إن الأميركيين موجودون الآن عند الرئيس الأسد». بعد حوالي النصف ساعة من الحديث في العموميات رن جرس أحد الهواتف في مكتبه وهو الهاتف الذي يتصل عليه رئيس الجمهورية فرد على الاتصال، ثم أغلق الهاتف وانتقل إلى غرفة داخلية غاب فيها حوالي ربع ساعة ثم عاد إلينا قائلاً يا شباب توجهوا إلى بيروت، إذا بتريدوا، لأن الأميركيين آتون إلى هنا من عند الرئيس. علمنا أن الحديث بين مورفي والأسد تطرق إلى المبدأ وتركت التفاصيل، أي اختيار الاسم للحوار بين مورفي وعبد الحليم خدام. عدنا إلى بيروت فوراً كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة، في سيارة الصديق مروان حمادة، وبدأنا نتحاور خلال الطريق من هو يا ترى الاسم الذي سيتم الاتفاق عليه. وكنا قد وصلنا بعد نقاش واستعراض للاسماء والظروف إلى أن مخايل الضاهر سيكون هو الاسم الذي سيتم اختياره. وبالفعل صدرت الصحف في اليوم التالي تؤكد على اختيار الضاهر وكان العنوان الملفت قول مورفي: مخايل الضاهر أو الفوضى.

حدثت مضاعفات وتم لقاء بين سمير جعجع وميشال عون برغم العلاقات السيئة بينهما، وبين رئيس الجمهورية الشيخ أمين الجميل، وتم الاتفاق على رفض هذا الاسم. ثم عقد اجتماع مسيحي في بكركي كان الجميع قد اتفقوا على أنه لا يمكن القبول بمخايل الضاهر، فكانت الفوضى الرهيبة التي مر بها لبنان لأشهر عديدة وبالتالي وصلنا إلى الأيام الأخيرة التي تسبق نهاية الولاية والأمور ما زالت غامضة. قبل نهاية مرحلة انتخاب رئيس الجمهورية في 22 أيلول بحوالي 3 أسابيع. أرسل الرئيس الحص كتاباً إلى الرئيس أمين الجميل وأبلغه فيه سحبه لكتاب الاستقالة، وبالتالي أنه لم يعد رئيساً بالوكالة بل أصبح رئيساً عادياً للحكومة. كلفني الرئيس سليم الحص يومها أن أنقل نسخة عن هذا الكتاب في الوقت الذي كان يبلغه فيه للرئيس أمين الجميل إلى كل من القياديين البارزين الوزيرين نبيه بري رئيس «حركة أمل» ووليد جنبلاط رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي». الزيارة الأولى للرئيس نبيه بري الذي قال لي: «قل للرئيس الحص مبروك يا فخامة الرئيس»! أجبته: «في الحقيقة جميعكم في الحكومة فخامة الرئيس وليس هو وحده». انتقلت بعدها وقابلت الوزير وليد جنبلاط وأبلغته ذلك فسر أيضاً كثيراً وقال لي أتمنى أن تبقى بجوار الرئيس الحص في هذه المرحلة الصعبة. ثم انتقلت فوراً إلى دمشق حيث وصلتها بعد الظهر والتقيت نائب الرئيس عبد الحليم خدام وأبلغته الكتاب. فأشاد بالرئيس الحص وقال لي: «لقد قرر الرئيس سليم الحص أن يشرب حليب السباع وأن يواجه».

في اليوم التالي دعا الحص إلى اجتماع لحكومته كحكومة كاملة الصلاحية.

قبيل 22 أيلول

مرت الأيام في هذه الظروف الصعبة وتم اختيار الأميركيين والسوريين لمخايل الضاهر لكن هذا الأمر أجهض قبل 48 ساعة من حصول الانتخابات. عملنا بسرعة على سبيل الاحتياط لأن سليم الحص كان يكرر أنه لا يقبل أن تتكرر تجربة 1952، بأن يؤتى بحكومة رئيسها ماروني بحجة أنه لا يمكن الابقاء على المركز الأول لمسلم. وبالتالي وبتكليف من الرئيس الحص قمت بزيارة المفتي حسن خالد في منزله في عرمون واقترحت عقد اجتماع بين القادة الروحيين المسلمين الثلاثة واصدار موقف يرفض تغيير الحكومة ويتمسك بسليم الحص رئيساً. أمام هذه الظروف قال لي الشيخ حسن خالد: الوقت لا يسمح باجتماع فلنتفق الآن على صيغة بيان ونتصل بالشيخ محمد مهدي شمس الدين ليوقعه معي، كذلك مع شيخ العقل. فعلاً كتبنا بياناً وقام المفتي الشهيد حسن خالد بالاتصال بالامام الشيخ محمد مهدي شمس الدين وقرأه له، فأجابه تستطيع أن تعتبر أنني وقعت على هذا البيان. تعذر الاتصال بشيخ العقل وبالتالي حملت هذا البيان إلى الرئيس سليم الحص. كان هذا الأمر قد بدأ يتسرب فاتصل غسان تويني الذي كان مستشاراً للرئيس أمين الجميل بالرئيس الحص وقال له: «دخيلك يمكن أن نتفق على كل شيء، لكن لا تعلنوا بيان المشايخ لأنه يزيد الأمور تعقيداً».

وكان الدكتور عبد الله الراسي في هذه الفترة قد عاد عن استقالته ليحضر اجتماعاً لهذه الحكومة. خلال اليومين الأخيرين كان هناك الكثير من تبادل الاتصالات وكان رأي الرئيس سليم الحص بأن تطعم الحكومة وبالتالي أن يأتي عمر كرامي مكان شقيقه رشيد. لكن رئيس الجمهورية أمين الجميل اقترح أن يعين داني شمعون نائباً لرئيس الحكومة. جلسنا مع بعض الأصدقاء في منزل الرئيس الحص نتشاور، واستقر الرأي على أننا لا يمكن أن نقبل بهذا الاقتراح لأنه يعني إمكانية اغتيال الرئيس سليم الحص، وبالتالي تصبح الحكومة برئاسة داني شمعون.

ليلة 22 أيلول

الليلة الشهيرة ليلة 22 أيلول وهي نهاية ولاية الرئيس الجميل: بعد أن انفض زوار الرئيس الحص حوالي الساعة التاسعة مساءً، بقيت معه في مكتبه الصغير لنتابع الاتصالات الليلية. في البداية تم التشاور باقتراح أن تبقى حكومته كما هي وبالتالي أن تتولى هي انتخاب رئيس الجمهورية في اقرب وقت. لم تتم موافقة الآخرين على ذلك. فطلب مني الرئيس الحص الاتصال بالقصر الجمهوري وكانت الساعة قد قاربت العاشرة وأن أتصل بصديقي مستشار الرئيس الدكتور ايلي سالم وأعرض عليه إضافة عمر كرامي كما سبق، وأن يكون هناك نائبان للرئيس، النائب الأول هو الدكتور عبد الله الراسي لأنه من الطائفة الأرثوذكسية صاحبة الحق في نيابة الرئاسة، وأن يكون داني شمعون هو النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء. اتصلت بالقصر الجمهوري لكي أعرض هذه الفكرة على الرئيس الجميل من خلال الدكتور سالم وإذ بالأستاذ غسان تويني يرد ويطلب مني أنه يريد أن يسمع الاقتراح بلسان الرئيس الحص مباشرة. أعطيت السماعة للرئيس الحص الذي قدم له هذا الاقتراح فقال له غسان سندرس هذا الاقتراح. مرّ الوقت حتى مشارف الحادية عشرة، فاتصل الرئيس الحص بالنقيب محمد البعلبكي وأذكر أنه كان نائماً، وطلب منه أن يتصل بصديقه غسان وأن يسأله أين أصبح هذا الاقتراح. لم يأتنا جواب إلا عند الساعة الثانية عشرة إلا عشر دقائق عندما أعلنت الحكومة العسكرية برئاسة العماد ميشال عون. ليلها لم ننم. تم الاتصال بالاعضاء المسلمين في الحكومة العسكرية وهم ثلاثة ضباط نبيل قريطم (وكان نائماً) ومحمود أبو ضرغم ولطفي جابر وبالتالي اعتذروا عن قبول الاشتراك في هذه الحكومة. دعا الرئيس الحص في اليوم التالي إلى اجتماع لحكومته لتأكيد أن هذه الحكومة هي الحكومة الشرعية.

حكومتان: الحص وعون

استمر الوضع هكذا، حكومتان كل منهما تعتبر أنها الشرعية وتتمتع بصلاحيات رئيس الجمهورية. وكان الأمين العام لمجلس الوزراء يتولى مسؤولية صدور مرسومين متطابقين حيث تدعو الحاجة وبالتالي تتولى الإدارات المعنية تنفيذ نص واحد للمرسوم المطلوب. وكان الرئيس الحص يجهد بمحاولة توحيد البلد. وكان يقترح استقالة الحكومتين معاً وانتخاب رئيس للجمهورية يوحد البلد ويؤلف حكومة واحدة. لكن كل هذه الأمور لم تنجح بسبب اصرار العماد ميشال عون على عدم الولوج في هكذا حل. وكانت الدول تتعامل مع الحكومتين على أن حكومة ميشال عون هي الحكومة الدستورية بمعنى أنها صدرت بمرسوم. أما حكومة الرئيس الحص فهي ميثاقية أي أنها تبقى حكومة برئاسة مسلم سني حسب الميثاق الوطني. واستمر هذا الخلاف وحصلت قمم عربية عدة سداسية وثلاثية وسوى ذلك إلى أن تم تكليف الأخضر الابراهيمي بأن يكون مندوباً للجنة العربية السداسية التي اجتمعت في المغرب.

وانتهت هذه التحركات إلى انعقاد مؤتمر الطائف عام 1989.