الانتخابات في معظم قرى ومدن وبلدات لبنان «بلدية»، محلية في مضمونها وغاياتها وفي حسابات الناخبين والمرشحين، إنمائية الهدف في الأساس، عائلية في واقع الحال. الانتخابات البلدية مناسبة لتنافسٍ مشروعٍ بين مكونات المجتمع الأهلي وانتماءاته، الجديد منها والموروث لاختيار أكثر من ألف مجلس بلدي في لبنان.
لا يمكن التعميم في حالة البلديات على امتداد المناطق اللبنانية أو بالنسبة الى الواقع السياسي المتنوع في البلاد، فالواقع يختلف في جوانب عديدة: عدد الناخبين في البلدة وامتدادها الجغرافي والحيوي، توزّع العائلات وأحجامها عددياً، إيرادات البلدية من الضرائب والرسوم، المدى الزمني للتجربة البلدية والأعراف المحلية السائدة، إضافة الى الاعتبارات السياسية المرافقة للعملية الانتخابية. عوامل أخرى تؤثر في الانتخابات البلدية. للبلديات في البلدات الكبرى مداخيل ضخمة، وهي قادرة ان تتحكّم بصرفها، وفي حال كان المجلس البلدي متناغماً، فغالبا ما تطغى المحاصصة والمسايرة على المساءلة. أما الرقابة الشعبية فتخضع للاعتبارات الانتخابية نفسها.
مع إعادة إحياء الانتخابات البلدية في 1998، بعد انقطاع دام لأكثر من ثلاثة عقود، استعادت الاعتبارات المحلية مكانتها وكأن شيئاً لم يحصل، لا في البلدة ولا في البلاد من حروب وتهجير وتحولات في حياة الأفراد والجماعات. كما أن البلديات قديمة العهد، وبعضها يعود تأسيسها إلى مرحلة ما قبل الدولة، تختلف طبيعة المعركة الانتخابية فيها عن البلديات المنشأة حديثاً، لا سيما لجهة مسألة الوجاهة والعائلات التي تعتبر أن لواء القيادة المحلية معقود لها، فضلاً عن التنافس داخل العائلة الواحدة. وفي السنوات الأخيرة ارتبط عامل الثروة والمال بعامل الوجاهة، بينما تنوعت أسبابها في مراحل سابقة، لا سيما في البلدات الكبرى. كما أن للعاصمة بيروت وبعض المدن خصوصية تاريخية وسياسية، منها طرابلس وزحلة ودير القمر، على سبيل المثال لا الحصر.
تسعى القوى السياسية، لا سيما الأحزاب، إلى «تسييس» الانتخابات البلدية، فيكون لها حصة وازنة في المجلس البلدي. إلا أن المحازبين قد يسعون الى توظيف الحزب لخدمة المصالح المحلية، وقد يحلّ الولاء «البلدي» مكان الحزبي، فضلاً عن فاعلية العلاقات الشخصية في الشأن المحلي. هكذا يخضع نفوذ القوى السياسية للخصوصيات العائلية ولاعتبارات مواقع النفوذ المحلي.
الأحزاب التي انخرطت في الانتخابات البلدية منذ 1998 وشاركت في السلطة تتمتع بقدرة على التأثير في الانتخابات البلدية تفوق قدرة قوى سياسية شاركت في الانتخابات والسلطة في السنوات الأخيرة. ولا تغيب إمكانية التوافق الذي قد يصل إلى حدّ التزكية في البلدات حيث للقوى السياسية نفوذ حاسم. كما أن التحالفات السياسية المجرّبة هي أكثر تأثيراً في الشأن المحلي من التحالفات الجديدة، وإن صدقت النيات. والتحالفات السياسية تكون أكثر فعالية إذا انتقلت من الدائرة الأوسع (أي الانتخابات النيابية) إلى الدائرة المحلية، وليس العكس.
للانتخابات البلدية دينامية خاصة، وقواعد اللعبة تختلف عن تلك التي تؤثر في الانتخابات النيابية. العامل المحوري يرتبط بمعركة رئاسة البلدية وبالشخص الملائم لقيادة المعركة. وعادة ما يأخذ اختيار المرشحين لعضوية المجلس البلدي منحى توافقياً لتمثيل العائلات في سياق المعركة الانتخابية واصطفافاتها. وقد يُستعان بالمخاتير للاعتبارات نفسها. أما الجانب الإنمائي للانتخابات البلدية فقد يكون الأضعف في حسابات الناخبين والمرشحين، وإن تمّ إبراز الجانب الإنمائي في الخطاب المعلن.
العمل البلدي، إذا أُحسن تفعيله، يشكل حجر الزاوية في الإنماء المحلي، لا سيما أن البلديات واتحاداتها تشكل الاختبار الفعلي للامركزية الإدارية. ثمة مجالس بلدية واتحادات ناجحة، إنمائياً وإداريا، وأخرى مفككة ومتعثرة لأسباب متنوعة، تبدأ بالشخصي والعائلي لتصل الى المناطقي. لكن مع استثناء الاصطفاف السياسي، ما هي معايير النجاح والفشل في ذهن الناس، وكيف يتم تحديدها او قياسها؟
وتبقى ثغرات، خصوصاً في المدن والبلدات الكبرى، إذ لا يحق لسكان البلدة الانتخاب حيث يقيمون، وأحيانا لأكثر من جيل، بحسب قانون البلديات المعتمد، ما يعني إبقاء الانتخابات البلدية في إطارها المحلي والعائلي. كما أن للدولة دوراً محورياً في تفعيل العمل البلدي وتحصينه من التجاوزات، فضلاً عن واجب التزام مؤسساتها بالقوانين، فتُعطي البلديات حقوقها المالية بانتظام وبلا منّة من أحد. البلديات هي أداة الحكم المحلي في لبنان والحكم على أدائها، سلباً أم إيجاباً، «بلدي» بامتياز.