IMLebanon

مفارقات غرائبية!

 

أوليس من المفارقات الغرائبية أن يتم تكليف الرئيس سعد الحريري بتأليف الحكومة بمرونة قلّ نظيرها، ثم تنقلب الأمور، فيصبح التأليف عقداً قلّ نظيرها أيضاً! المنطق يقول إن سهولة التكليف لا بد أن تُترجم بسهولة التأليف. فعندما نجد أن التكليف لقي ترحيباً من الجميع، فبات الجميع في أمكنة أخرى. هل هي فخاخ نُصبت في البداية للعرقلة في المسارات؟ فلا الدستور عويص ولا الميثاق غامض، ولا التاريخ بعيد. بدا كل شيء واضحاً. صافياً نقياً، حتى اعتكرت الأمور. كيف؟ أبقدرة قادر؟ أم بإرادة عاجز؟ من عرقلة إلى عرقلة. نظن أنها المحاصصة، والأهواء، والأنانيات، فإذا بالمحاصصة قناع لأمور أخرى، ثم يُقال إنها معركة رئاسة الجمهورية المقبلة، تحدّد الأزمات، ثم نكتشف أن الأسباب الكامنة مختلفة؟ ثم يُقال إنها حرب صلاحيات بين الرئاستين، وتجري اجتهادات من هنا، وتفسيرات من هناك، فتزداد الأمور التباساً. ثم يُقال إنها أزمة درزية (مَن يمثل الطائفة، الرابح أم سواه)، وأزمة زعامات مارونية، مَن يكون المجسّد لإرادة هؤلاء، متجاوزين الأعداد والعدّادات. ثم يُقال إنها حرب إلغاء قديمة تنبعث اليوم بين «القوّات» و«التيار الوطني الحر». ثم يُقال إنها مشكلة تتعلق بمَن يحق له تمثيل السُنَّة: أمن جهة الحريري، أم من جهة مَن استنبتوا من غرماء. ثم يُقال إن تدخلات الخارج هي السبب الكامن الحقيقي، فهناك مَن يفتعل الإعاقة، في انتظار انجلاء بعض الأمور في المنطقة المتصلة بسوريا والعراق.. ثم تُستدر عوامل أبعد فتتهم «أميركا» بهذه العرقلة، ثم إيران، وأخيراً السعودية.. من دون استبعاد إسرائيل وسائر الخلق…

 

في خضم هذه الأمور لم ينجح بعضهم بتيئيس الرئيس الحريري، ولا في «إحراجه» لإخراجه، ولا في تصوّر إضعافه فيجفل: الصبر والإناة.. والمواجهة «السلمية» الديموقراطية، ومحاولات تدوير الزوايا، التي تتسنن هنا، ثم تتأزم هناك. فالزوايا الحادة قد لا تحتاج إلى مجرد مبرد، بل قد تحتاج إلى شحذ دائم. ووصل الأمر ببعضهم إلى أنهم وضعوا في ميزان التأليف «مصير» الحريري، بل ومصير الجمهورية، ومصير «السلم الأهلي».

 

الاقتصاد

 

وقد لجأ كثير من العارفين إلى الرجوع إلى الوضع الاقتصادي «المُهدّد» فلعل التذكير بذلك، يجعل الضمائر تستفيق، أو يحرك المصلحة العامة ضمن هذا الإطار. فلا أثر ذاك، ولا تلك: فلا الوضع الاقتصادي أقض مضاجع بعض السياسيين، ولا المصلحة العامة هزّت سرائرهم. بدا وكأنهم حريصون على نرجسياتهم وأنانياتهم أكثر مما هم حريصون على مصير البلد، أو الاقتصاد، أو مؤتمر «سيدرز»، ولا حتى نداءات العالم بضرورة تسريع تأليف الحكومة، فكأنهم في البلاد وخارجها، في هذا الكوكب وخارجه. غير آبهين إلاّ بما يتخيلونه في مراياهم من ذواتهم المضخمة ومن قسماتهم، ومن طموحاتهم النزقة.

 

وتشبه مراحل التأليف، بين الجدّ واللعب، بين التفاؤل والتشاؤم، بين قرب التأليف أو بعده.. بجولات الحروب الماضية. فهي أشبه بجولات الملاكمة أكثر مما هي مراحل: من جولات تتطلب إما الانتصار بالضربات القاضية على طريقة محمد علي كلاي، أو بالنقاط. وما الاستراحة إلا لاستئناف المعركة حتى نهاية الماتش. لكنها ليست مباراة واحدة على حلبة واحدة، بل عدة مباريات في حلبات متعددة. تنتهي هنا جولة، وتبدأ هناك جولات، حتى تحار الناس ما هي المباراة الحقيقية وما تلك الوهمية. هنا بالذات اختلط الأمر على الناس: الكل في لباس الميدان، والكل في مقاعد المتفرجين: أيكون الصراع بين المتفرجين، لا بين الأبطال، أم بين الأبطال أنفسهم، أيربح المتفرجون أم يخسرون؟ ومن هو هذا الحكم الذي يرفع أيدي المنتصرين ويعلن النهاية؟ مباراة بلا حكم ولا صفارة حقيقية. أو ربما بلا أبطال. أو ربما حتى بلا متفرجين: أي مونودرامات تظنها مفتوحة وهي مغلقة، أم مغلقة لكن هي مفتوحة.

 

الرئاسة

 

ألم تكن الانتخابات الرئاسية على هذه الشاكلة؟ ألم تكن حتى الموازنة صعبة التحقيق؟ ألم تكن حتى الحكومات السابقة تشبه الوضع اليوم؟ التاريخ يعيد نفسه، لأنهم محاصرون بلا مخارج وكأن الناس لم يعد لها دور سوى عدّ الجولات: نعيش منذ نصف قرن مصائر مبهمة. ومسارات مجهولة. نتابع ما يجري وكأنه يجري في قارة بعيدة، واللاعبون بات معظمهم غرباء، في انتماءاتهم، هجناء في أفكارهم، قيل نحن حريصون على العهد، وتأليف الحكومة ينقذه. جاءت كلمات السر من أفواه الكبار. ثم نطق بها الصغار. وكأن كلمة السر باتت مفضوحة قبل إعلانها. بل يشعر الناس، أن هناك مَن يريد شرشحة العهد، والحكومة، ومجلس النواب «آخر ضحايا الأزمة».. والدستور أعزل أمام البراثن والأشداق..

 

تفاؤله

 

الحريري على تفاؤله، واستغرب الناس مدى هذا التفاؤل. أيكون وحده ينتظر المنْ والسلوى في زمن قاحل؟ أم أنه يهيئ «مفاجأة» متفجرة. لكن ليس ذلك من طبيعته: يستوعب المفاجآت الصغيرة، ويُعالج الثقوب الكبيرة، مع جهات من هنا وأخرى من هناك. لكنه، في إطلالته التلفزيونية الأخيرة مع الإعلامي مارسيل غانم فاجأ الجميع باستمراره في التفاؤل. لكن لم يكن تفاؤلاً للتطمين، أو للانتظار، بل كأنما تفاؤل «حاسم» جدّي «الحكومة ستتألف في غضون عشرة أيام». يتساءل الناس إلى ماذا استند ليفجر هذه المفاجأة «السعيدة»؟ من أين تصاعد الدخان الأبيض؟ وهل بات هناك دخان أبيض في هذا البلد المغلوب على أمره؟ والغريب أن بعضهم انتقد نبرته الإيجابية «المفرطة»، وآخرون أخذوا عليه دماثته، وانفراجه على امتداد الحلقة. أكان عليه أن يُقطّب جبينه، ويلبس ثوب الحداد، ويُجهّم وجهه، ويثور، ويشهر أصابعه «تهديداً» أو وعيداً، أو اتهاماً، أو حسماً باتجاه اليأس والقنوط! لماذا يحب الناس أحياناً الميلودراما والنهايات التعيسة؟ لكن يبقى السؤال: هل مَن يأتي من هذه الزاوية أو تلك ويبدّد «ضحكة» الحريري، وتفاؤله، وإعلان ثقته بلبنان واقتصاده وديموقراطيته، نعم!

 

الرماد

 

فهذا الصغير أو الكبير الذي رأى أن الأمور أفلتت من يديه، قد يحرك الرماد بحثاً عن نار تنبعث منه. لكن عبثاً. تجاوز الرئيس المكلّف هذا الجنوح غير المفهوم، إلى الاحتفاظ بموقعه الإيجابي، والتمسك بموعد التأليف، «بعد عودة الرئيس من الخارج». ينتظر الرئيس إذاً؟ نعم! ألأنه توصل إلى حلحلة العقد؟ ربما، ولكن ماذا لو خرج من كمّه صوت يعرقل ذلك؟ الصوت المعهود. أمنية تحتاج إلى ما يؤكدها؟ نعم! فالآراء تتغير مع تغير الأمزجة و«الإملاءات». هذا خبرناه على طول الأزمات التي عصفت بلبنان طوال نصف قرن من الجنون. وهنا بالذات يذكر الجميع بما لا يستفزهم، «إذا اعتذرت فلن أعود». وماذا يعني هذا التصريح بعد التمسك بالحسم الإيجابي؟ أهناك مَن يحرّك الأمور باتجاهات معاكسة؟ ما الذي حدا بالحريري للتصريح بهذه «القنبلة»، وهل يستغلها الذين سبق أن أحرجوه ليخرجوه ومَن حاولوا وضعه في عنق الزجاجة، ليحكموا إغلاقها هذه المرة؟ تصريح يقلق. لأن الحريري المتمسك بصبره وتحمله، كأنه يطل من زاوية أخرى، بعد كل هذه المسارات الوعرة. تُرى أيقلب الطاولة على كل اللاعبين ويضعهم أمام مسؤولياتهم! أينتفض على تفاؤله هذه المرة، ويوضح للناس وقائع التأليف وخلفياته، وماذا يمكن أن تكون ردود المعنيين على تصريح الحريري (وقد قرع ناقوس الخطر)، ربما، الصمت، وربما الانتظار، وربما اللعب على الكلام. لكن الناس أخافهم تصريح الحريري (بعد المقابلة التلفزيونية)، «إذا استقال ستكون كارثة على البلد»؛ وأتذكر عندما دخلت المقهى سألني عدة أشخاص: «أيستقيل الحريري إذا أحسّ بالعراقيل تسدّ المخارج؟»، وآخرون «هل تظن أنه قد يترجم كلامه بالفعل؟»، الجواب: «علمي علمكم». وهذا يعني أن الناس هي التي شعرت بخطورة موقف الحريري، أقصد الناس العاديين الذين ينتظرون «الفرج» في تأليف الحكومة، والمشاريع الاقتصادية الموعودة من«سيدرز»، «لأن الأوضاع لم تعد تُطاق»: «نحن على شفير الهاوية».. «إذا استقال فمَن يكون المنقذ؟»، الموقف فجّر مخاوف عند الناس.. وحتى عند المسؤولين الحقيقيين لا عند «المسؤولين» غير المسؤولين. كأن الأمور اليوم في نقاط الالتباس، والحيرة، والخوف. وما قرأناه أمس من أن مسألة توزيع الحقائب، قد تكون «أزمة» جديدة تؤخر التأليف. إنها المحاصصة التي يختلط فيها التغول والمصالح والحقوق. فمَن هم المتغولون الشرهون الذين يريدون أن يستأثروا «بالكل»، «بالبيضة وتقشيرها»، بفعل أناني وكذلك سياسي وحتى «إلغائي». ويسأل الناس «ألم تنتهِ حروب الألغاء»، «ألم تنتهِ بعد حروب الاستئثار»؟

 

كل هذه التساؤلات لا يعرف الناس أجوبتها ولا بعض السياسيين.

 

الكل ينتظر عودة الرئيس عون.

 

فلعلّ وعسى!

 

فلعلّ وعسى!

 

بول شاوول