تحول الواقع الامني في البقاع الى لغز حقيقي، استعصى فكه وتفسيره حتى الآن، بعدما أخفقت كل الخطط الامنية والاجهزة المعنية في فرض الاستقرار في تلك المنطقة التي يريد لها بعض المتمردين على القانون ان تسبح خارج جاذبية الدولة، على كل المستويات، وان تبقى مقيمة تحت وطأة ظاهرة الخطف والقتل، برغم جميع المحاولات التي بُذلت للمعالجة.
وبينما تحقق أجهزة الدولة نجاحات واضحة في مواجهة الارهاب التكفيري، تبدو في المقابل ضعيفة او عاجزة امام قلة من المرتكبين والعبثيين الذين يشوهون صورة البقاع، ويحولون أهله الى «رهائن» لمزاجهم الاجرامي وتفلتهم الاخلاقي.
وبرغم ان كل الجهات الحزبية والرسمية تؤكد رفع الغطاء عن المخلين بالامن ومنح الجيش والامن الداخلي كامل الدعم والصلاحيات لملاحقتهم، إلا ان المفارقة تكمن في ان ذلك لم يكن كافيا للجم الفوضى المزمنة وتقليص مخاطرها، ما يدفع الى التساؤل عن طبيعة الحلقة المفقودة التي لا تزال تمنع إنهاء هذا الخلل الامني الفادح.. والفاضح.
لقد حان الوقت للخروج من منطق «الصدمة» او رد الفعل في التعاطي مع وضع البقاع، وصولا الى تفعيل الامن الاستباقي في تلك المنطقة، بحيث لا تنتظر الاجهزة والقوى السياسية وقوع حادثة معينة، حتى تقرر التحرك وتلوح بالحسم والحزم، ثم لا تلبث ان تخفت حماستها مع مرور الوقت، في انتظار ارتكاب جريمة خطف او قتل جديدة.
ـ «الثنائي الشيعي»: تصرفوا.. ـ
وليس خافيا ان الثنائي الشيعي المتمثل في «حركة أمل» و«حزب الله» قد طفح كيله، وهو يحمّل الدولة المسؤولية الكاملة عن مظاهر الخلل الامني في البقاع، خصوصا انه سبق للرئيس نبيه بري والسيد حسن نصرالله ان أكدا انه لا يوجد غطاء لاي مرتكب، وان الاجهزة العسكرية والامنية معنية باتخاذ الاجراءات اللازمة لتحصين الاستقرار وملاحقة العابثين به، من دون وضع خطوط حمر امام تحركاتها.
وفيما أبلغ بري وزير الداخلية نهاد المشنوق ضرورة المعالجة الجذرية للتفلت الامني واعتماد الحزم في مواجهة المتسببين به، تؤكد اوساط مطلعة على موقف «حزب الله» ان الحزب يطالب بتنفيذ خطة أمنية جدية، لا استعراضية، وهو يعتبر ان الدولة تتحمل المسؤولية عن كل تقصير او حادث يحصل في البقاع.
وتقول الاوساط لـ «الديار» ان الحزب لا يمنح الغطاء أصلا لاي مرتكب حتى يرفعه الآن، مشيرة الى ان بعض المعنيين في السلطة يجب ان يحزموا أمرهم ويكفوا عن التمويه على فشلهم من خلال ذرائع مفتعلة، من قبيل مقولة رفع الغطاء، فيما هم يعرفون انه لا توجد حصانة حزبية لأي مخالف للقانون.
وتشدد الاوساط على ان الحزب ينطلق في موقفه من مبدأ ان الامن في البقاع هو في عهدة الدولة حصرا، وان عليها ان تقوم بواجباتها في حماية الناس.
ـ الصراف: اتركونا نعمل ـ
ويقول وزير الدفاع يعقوب الصراف لـ «الديار» ان توقيف الانتحاري في شارع الحمرا هو إنجاز نوعي بالتأكيد، لكن يجب ألا نكتفي بضبط الامن في بيروت ونتركه متفلتا في مناطق أخرى، منبها الى انه ليس مفيدا ان تكون العاصمة وحدها بمثابة جزيرة هادئة، وبالتالي فان المطلوب تعميم الامن في كل الاتجاهات لان من شأن ذلك ان يؤدي الى تعميم المردود الايجابي ايضا.
ويلفت الصراف الانتباه الى ان اجتثاث ظاهرة الخطف والقتل في البقاع لا يؤدي فقط الى تحقيق الاستقرار، وإنما يساهم أيضا في إيجاد بيئة حاضنة للاستثمارات وزيادة فرص العمل، معتبرا ان الانماء المتوازن هو شرط من شروط تثبيت الامن، ولا يمكن الفصل بينهما.
ويعتبر الصراف ان الخطة الامنية للبقاع يجب ان تكون نمطا من العمل التنفيذي اليومي، في إطار مسار متواصل، وليست حدثا عابرا او ظرفيا، على ان يُترك للجهات العسكرية والامنية الرسمية اتخاذ التدابير المناسبة وفق تقديرها للوضع، من دون ان تكون هناك تدخلات من أي جهة كانت، مشيرا الى ان مهمة وزير الدفاع والسياسيين هي تأمين المظلة العامة والمتطلبات الضرورية للقوى العسكرية والامنية كي تؤدي مهامها بأفضل طريقة ممكنة، لا أكثر ولا أقل.
ويوضح الصراف انه إذا قرر مجلس الوزراء وضع خطة أمنية جديدة فأنا بالتأكيد سأكون ملزما بها، انطلاقا من التزامي كوزير بالسياسة العامة للحكومة.
ويؤكد الصراف ان خاطفي سعد ريشا هم قيد الملاحقة، مشددا على ان اطلاق سراحه حصل تحت الضغط، وليس بفعل تفاوض او دفع فدية.
ويشدد الصراف على ان هناك جدية تامة في ملاحقة الخاطفين وتوقيفهم، وهذه رسالة يجب ان يلتقطها كل من يفكر في العبث بالامن، مشيرا الى ان تحصين الساحة البقاعية هو من بين أولوياته.
ويرى الصراف ان التناغم القائم بين رئيسي الجمهورية والحكومة هو أمر ممتاز، ينتج بيئة سياسية صحية لعمل الاجهزة المختصة.
ـ جريصاتي.. والهيبة ـ
أما وزير العدل سليم جريصاتي، فيؤكد بدوره لـ «الديار» ان ظاهرة الخطف والارتكابات الاخرى في البقاع هي آفة يجب القضاء عليها واجتثاثها من الجذور، مشددا على انه لا تفاوض ولا تهاون مع المجرمين، والدولة مصممة على استعادة هيبتها.
ويكشف جريصاتي عن ان الاتجاه الرسمي هو نحو التشدد في مكافحة كل انواع الجرائم، اسقاط منطق الامن بالتراضي، عدم منح اي شكل من أشكال التغطية لاي مرتكب، وتعزيز الجهد الامني الاستباقي.
ويلفت جريصاتي الانتباه الى ان الحل الجذري لهذه المشكلة المركبة يتطلب في أحد خطوطه معالجة هادئة لملف قضائي يشتمل على ما بين 36 و37 ألف مذكرة توقيف والقاء قبض وخلاصات لاحكام جنائية غير منفذة.
ويوضح انه كان قد أخذ على عاتقه مقاربة هذه القضية، على قاعدة معالجة شاملة وعادلة توفق بين ثوابت الدولة وطبيعة ملاحقات معينة، ولكنها تستثني مرتكبي أعمال الخطف والجرائم الشائنة ومصنعي المخدرات وتجارها، مشيرا الى ان حادثة خطف المواطن ريشا خففت بعض الشيء من زخم هذا المسعى، ولافتا الانتباه الى ان كل عملية خطف من شأنها تؤجل الحلول الكبرى والنهائية لما باتت تُعرف بظاهرة الطفار.
وينبه جريصاتي الى انه من غير الممكن العمل تحت الضغط، مشددا على ان معالجة الجانب القضائي تستوجب الظرف الهادئ وبعض الوقت.