فصل من كتاب «ليس كمثله يوم»
لم يكن الإمام السيد موسى الصدر غريبا عليّ، فقد عرفته وعايشته ثلاث عشرة سنة. تعرفت عليه أول مرة ذات يوم من العام 1966، في استراحة ملحقة بمعهد الدراسات الإسلامية على الشاطئ الجنوبي لمدينة صور في جنوب لبنان. وآخر مرة شاهدت فيها الإمام كانت ليلة سفره الى ليبيا في 24 آب 1978 بعد جلسة صاخبة في مقر المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في «مدينة الزهراء» في خلدة. ثلاثة عشر عاما عرفت فيها الإمام الصدر عن قرب وعايشت سنواته الأكثر نشاطا وحيوية وحركة وإنتاجا في حياته، وخلال وجوده في لبنان الذي امتد على مدى عشرين عاما.
كنت قد انتقلت من بلدتي الحدودية (الناقورة) في نهايات العام 1966 الى مدينة صور التي تبعد عنها نحو عشرين كيلومترا، وذلك لاستكمال دراستي في ثانوية صور الرسمية. وقد استضافتني شقيقتي في منزلها القريب من الكلية الجعفرية. ومن محاسن الصدف أن زوّج شقيقتي، الطاهي المحترف الذي صار في ما بعد لصيقا بالإمام في مؤسساته ومنزله، كان يدير تلك الاستراحة المطلة من عل على مياه البحر. وكان يحلو للإمام أن يلجأ عصرا الى بعض الراحة في ذلك المكان الجميل الذي لا يحجب الناظر منه، غير الأفق البعيد غربا، وهضاب جبل عامل جنوبا وشرقا.
بعد عناء يوم دراسي طويل كان من الطبيعي لصبي في العاشرة من العمر أن ينفر من المنزل للتسكع في أحياء المدينة وعلى شاطئها الجميل. ومن الطبيعي أكثر أن ألجأ الى الاستراحة التي يديرها صهري «أبو يوسف». هناك شاهدت الإمام الصدر للمرة الأولى في مجلس يلتف حوله العديد من العلماء وفاعليات المدينة والأدباء والشعراء، حيث تدور النقاشات في مختلف الشؤون السياسية والاجتماعية والإسلامية والأدبية.
ذات يوم لفت الصبي نظر الإمام الصدر، فأومأ إلي أن أقترب منه، فدنوت على خجل شديد، لكن ابتسامته الآسرة شجعتني على تهدئة روعي. سألني عن اسمي ودراستي وبعض أحوالي وما الذي يجذبني الى هذا المجلس، فأجبت ببراءة «إنها التسلية»، فرد الإمام قائلا: «أنا لا أريدك أن تتسلى فقط، بل أريدك أن تستفيد بقدر ما تستطيع. اجلب كرسيا واجلس هنا الى جانبي».
هكذا دخل الإمام الصدر الى عقلي وقلبي، فلم أكتف بمجلسه الحافل في استراحة معهد الدراسات الإسلامية الذي بات اليوم مقرا للجامعة الإسلامية، بل رحت ألاحق مجالسه من جامع الحارة في صور الى نادي الإمام الصادق الى كل مكان يتوفر لي فيه سماع كلامه مستعينا بزوج شقيقتي. ولا أخفي أنني كنت أهرب أحيانا من المدرسة لأجل هذا الغرض لدرجة قصّرت في دراستي. واكتشفت أن صهري «أبو يوسف» اشتكى علي للإمام الذي ضبطني ذات يوم بالجرم المشهود، فلم يعنفني ولم يقسُ علي بل راح بأسلوبه الباهر يرشدني ويشرح لي فوائد العلم الذي يخدم مستقبلي أكثر من المجالس.
كان العام 1966 حافلا بالأحداث. في ذلك العام بدأ الإمام الصدر يوسع نشاطه السياسي وحركته الفكرية والمنبرية. ورحت أسمع منه تعابير ومصطلحات تدغدغ مشاعري الفتية، كالحديث عن الحرمان الذي كنا نغرق في طياته، وعن ضرورة الإنصاف وتنظيم شؤون الطائفة الشيعية الأكثر حرمانا. بالطبع لم يرق ذلك للزعامات السياسية التقليدية، خاصة في الجنوب، والتي رأت ان ذلك يهدد حضورها السياسي..
لم تكن المقاومة عند الإمام الصدر لتقتصر على العمل العسكري، بل تجاوزته الى العمل السياسي في الداخل والخارج. قرر الإمام أن يقوم بجولة عربية لاستنهاض الهمم من أجل الجنوب ماديا ومعنويا لتأمين متطلبات التحرير. زار لهذه الغاية العديد من الدول العربية. أقنعه الرئيس الجزائري هواري بومدين بزيارة ليبيا باعتبار رئيسها الشاب العقيد معمر القذافي مناضلا عربيا وداعما للمقاومة وحركات التحرر. وتحدد موعد الزيارة مع الذكرى الثامنة لثورة الفاتح من سبتمبر (الأول من ايلول) عام 1978، على أن توجه الدعوة من العقيد القذافي للإمام، ويتخللها اجتماع بين الرجلين لمناقشة الوضع في جنوب لبنان.
نوقش هذا الأمر طويلا داخل المكتب السياسي لحركة «أمل» برئاسة الإمام الصدر. كان هناك فريق يرفض الزيارة جملة وتفصيلا معللا ذلك بأن القذافي رجل لا يؤتمن له وسبق له أن هاجم الإمام الصدر، وكذلك فعلت بعض فصائل المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. أما الفريق الذي كان يؤيد الزيارة فقد كان يعلل ذلك بأنه لا يجوز استثناء ليبيا من الجولة العربية، وبالتالي فإن الجنوب والمقاومة بحاجة للمعونة الليبية السخية.
كان الاجتماع الحاسم عشية سفر الإمام والوفد المرافق، في مدينة الزهراء في خلدة. دار في الاجتماع جدل ساخن، وعلت الأصوات الى خارج قاعة الاجتماعات حيث كنت وأمين سر المجلس الشيعي الصديق عبدالله موسى وبعض مرافقي الإمام الصدر نسترق السمع من غرفة مجاورة للقاعة. تمسك الفريق الرافض للزيارة بموقفه وكاد يجمع الحضور معه على ذلك، إلا الشيخ محمد يعقوب وبعض آخر كان مصراً عليها. وقف الإمام حائرا وهادئا بين الطرفين وترك النقاش يأخذ مجراه، لكنه حسم موقفه في النتيجة باتجاه حصول الزيارة قائلا «وإن عزمتم فتوكلوا. فلنتوكل على الله». وتشكل الوفد من الإمام والشيخ محمد يعقوب والأستاذ عباس بدر الدين كصحافي مرافق للإمام.
اللقاء الأخير مع الإمام
روى لي عضو المكتب السياسي لحركة «أمل» وأحد مؤسسي الحركة الدكتور حسين يتيم وقائع اللقاء الأخير مع الإمام الصدر عشية سفره، على النحو الآتي:
كان الإمام الصدر قد عاد من الجزائر على رأس وفد يضم الشيخ محمد يعقوب والصحافي الأستاذ عباس بدر الدين. فاجأني يومها بيان للوفد يقول إن الصحراء الغربية تمتّ بصلة للجزائر أكثر من المغرب. وأنا كقارئ تاريخ أعرف أن هذه المنطقة اسمها الصحراء المغربية. وأعرف ايضا أن الإمام الصدر كان على علاقة طيبة جدا بالعاهل المغربي الملك الحسن الثاني، وعلى علاقة وطيدة بسفير المغرب في لبنان أحمد بن سودة، حتى أنه توسط لي ذات يوم مع بن سودة الذي نُقل الى الديوان الملكي المغربي، لإدخال نجلي أحمد الى إحدى الجامعات المغربية. وأذكر أنني دخلت يومها الى القصر الملكي في الرباط، واستقبلني بن سودة ونجلي بالترحاب بناء على وساطة الإمام الصدر، وأمسك بسماعة الهاتف واتصل بعميد كلية الطب قائلا: «يا أزرق.. أحمد يتيم يدخل كلية الطب». وهكذا كان. ولذلك كله استغربت مضمون البيان السالف الذكر، وعلمت في ما بعد أن الشيخ محمد يعقوب كان وراء هذا البيان بعدما فُتح الباب أمام الصدر لزيارة الجزائر في عهد بومدين الذي سمح باستقبال الطلاب الشيعة في الجامعات الجزائرية، من خلال منح دراسية مجانية، في وقت كانت المغرب تقدم منحا دراسية للطلاب الشيعة أيضا.
يضيف يتيم: بعد عودة الإمام من الجزائر اتصل بي سكرتير المجلس الإسلامي الشيعي الأستاذ عبد الله موسى، وأبلغني ان الإمام يريدني والأستاذ عباس بدر الدين لمرافقته الى ليبيا. (كان بدر الدين قد نقل مقر وكالة الانباء التي يملكها الى المعهد العربي بعد توتر الوضع الامني في قلب بيروت عام 1978 وكنتُ أحد العاملين فيها). سألت عبد الله موسى لماذا هذه الزيارة فقال ان معمر القذافي أرسل دعوة للإمام لحضور احتفالات الفاتح من سبتمبر. قلت له: أبلغ الإمام أنني قادم اليه، لكنني لن أذهب الى ليبيا، ولا أقبل أن يذهب هو أيضا، لأنه ذاهب الى نفق لا يعرف إذا كان في إمكانه الخروج منه».
رد موسى قائلا: تعال وقل له أنت ذلك.
يتابع يتيم: جاء عباس بدر الدين وأبلغته ذلك فانزعج جدا وقال لي: «أرجوك أن تقنع الإمام بالإحجام عن هذه الزيارة، ثم أنا مشغول جدا في هذه المرحلة ولا أستطيع السفر». قلت له «اذهب اليه وقل له ذلك بنفسك»، فرد قائلا: أنا لا أستطيع ان أخالفه. (كان عباس مستشارا إعلاميا للإمام الصدر). ذهبت الى مدينة الزهراء ودخلت القاعة التي يجلس فيها الإمام ومعه الشيخ محمد يعقوب والدكتور حسين كنعان والسيد أحمد اسماعيل وآخرون لم أعد أذكرهم. بادرني الإمام بالقول: واضح يا دكتور يتيم أنك منزعج ولا تريد الذهاب معي الى ليبيا.
قلت له قبل أن ألقي السلام: هل تعرف الى أين أنت ذاهب يا سماحة الإمام؟ أنت ذاهب الى حتفك.
رد الإمام بهدوئه المعهود: وصلتني دعوة من القذافي، والرئيس بومدين هو الوسيط بيننا. نريد يا دكتور أن نخلص من شر هذا الرجل ونتفاهم معه.
قلت: هذا قاتل يا مولانا. اسأل ماذا فعل بغيرك. اسأل الرئيس صائب سلام (رئيس حكومة لبنان سابقا) ماذا فعل به. لقد احتجزه ثلاثة أيام، وخطف ليبيين وغير ليبيين اختفوا عن وجه الأرض. قال عنك إنك من الخوارج ولن يقول اليوم إنك أمير المؤمنين.
قال الإمام: بومدين هو الوسيط، وأنا متكل على الله.
قلت: هذا قرارك. ولكن الذي صاغ لك بيان الجزائر أخطأ كثيرا في حقك، والآن هو نفسه الذي يورطك في ليبيا، وهو الشيخ محمد يعقوب.
وهنا انتفض الشيخ يعقوب وانتهرني قائلا: هل يمكن أن تسكت؟
قلت: أنت من يجب أن يسكت.
قلت: لولا عمامتك وعمامة الإمام لتصرفت معك بغير ذلك.
عندها همّ الشيخ يعقوب بالتوجه نحوي، فهبّ الإمام الصدر وفصل بيننا، وغادرت القاعة غاضبا (رويت هذه الحادثة في ما بعد للدكتور حسن يعقوب نجل الشيخ محمد يعقوب فأخذه الضحك).
ودّعت الإمام على باب القاعة قائلا: «لا أعرف يا مولانا إذا كنا سنلتقي بعد اليوم. رافقتك السلامة». وهكذا كان ولم نلتق بعدها. والتقيت عباس بدر الدين على درج المبنى فقلت له «ان القرار متخذ. كان الله في عونكم».
سافر الوفد الى ليبيا وسافرت أنا الى باريس ولندن برفقة الشيخ عبد الحميد الحر، وفوجئنا بعد أيام بصحيفة «الشرق الأوسط» في العاصمة البريطانية وعلى صدر صفحتها الأولى عنوان كبير: الإمام الصدر يختفي في ليبيا.
عدت الى لبنان، وكان أول اجتماع للمكتب السياسي لحركة «أمل» حيث انتخب النائب حسين الحسيني أمينا عاما مؤقتا للحركة، ونبيه بري مساعدا للأمين العام وناطقا باسم الحركة. وتوالت الأخبار والتحقيقات في قضية الإمام الصدر من دون جدوى. وفي أحد الاجتماعات بحضور شقيقة الإمام السيدة رباب الصدر انتقدت بشدة الثورة الايرانية وسوريا لعدم الاهتمام الجدي بقضية الإمام التي بدا انها ضاعت في خضم الأحداث، فاعترضت السيدة رباب على كلامي ودار جدال بيننا. لكن رباب عادت في السنوات اللاحقة لتنتقد الموقفين السوري والايراني من قضية الإمام وقالت لي: كان معك حق يا دكتور (انتهت شهادة يتيم).
قبيل السفر بساعات، عرج السيد عباس بدر الدين على مكتب الوكالة في المعهد العربي. كنت والزميل محمد بنجك في المكتب. ودعنا مرة ومثنى وثلاثا وهو يوصينا بالوكالة. كان مرتبكا جدا، لدرجة أنني انتفضت آخر مرة في وجهه قائلا: ماذا أصابك، هل هي المرة الأولى التي تسافر فيها؟
قال: في الحقيقة يا واصف لست مطمئنا لهذه الزيارة.
ومضى وكانت المرة الأخيرة التي أشاهد فيها الرجل.
لغز غياب الإمام الصدر
غاب الإمام الصدر ومعه عباس بدر الدين. بقيت على مقربة من المجلس الشيعي وتحركه في سبيل الإفراج عن الإمام الصدر ورفيقيه. وأمام إصرار ليبيا على أن الإمام الصدر ورفيقيه غادروا الاراضي الليبية الى ايطاليا، قرر مجلس الوزراء اللبناني إرسال بعثة الى روما برئاسة الأمين العام لمجلس الوزراء الدكتور عمر مسيكة للتحقيق في الموضوع، وأعدت البعثة تقريرا حصلت حينها على نسخة منه ما زلت أحتفظ بها حتى الآن، وفيه أن رجلي دين ومدنياً وصلوا فعلا الى أحد الفنادق الايطالية وحجزوا ثلاث غرف، ثم خلعوا ثيابهم وغادروا الفندق ولم يُعثر لهم بعد ذلك على أثر. إلا أن مواصفات الرجال الثلاثة لا تنطبق على الإمام ورفيقيه. وقد أمسك القضاء الايطالي بملف هذه القضية وما يزال منذ العام 1978، لكن الإمام ورفيقيه لم يظهروا منذ ذلك التاريخ ولم يتبدل الموقف الليبي منذ ذلك الحين.
سبعة وثلاثون عاما مضت على غياب الإمام الصدر ورفيقيه. من أواخر أيلول عام 1978 وحتى اليوم . لم تتوقف عمليات البحث والتفتيش ولا خمدت التحقيقات القضائية المحلية والدولية، ومع ذلك ما تزال هذه القضية لغزا محيرا. كان مفهوما أن تطمس المعلومات المتصلة بها قبل سقوط نظام العقيد معمر القذافي نتيجة العجز عن ملاحقة هذه القضية ومتابعتها وفك رموزها في ظل النظام البائد، لكن المفارقة أن هذا اللغز ظل مستمرا بعد سقوط النظام، على الرغم من البعثات التي أرسلت الى ليبيا والتي أجرت محادثات وتحقيقات مع أركان النظام الجديد وبعض أركان النظام السابق، وأبرزهم رئيس المخابرات السابق في عهد القذافي عبد الله السنوسي الذي اجتمعت به بعثة لبنانية برئاسة وزير الخارجية عدنان منصور لمدة خمس ساعات، ولكن من دون جدوى. حتى أن الوزير منصور يقول ساخرا «إن السنوسي كاد يقنعنا في هذا اللقاء بأن الإمام الصدر ورفيقيه لم يدخلوا الى ليبيا، وهو أمر يدعو الى السخرية».
والحقيقة أنني تابعت تفاصيل هذه القضية منذ لحظاتها الأولى، لا سيما التحقيقات القضائية التي جرت على أكثر من مستوى، والتصريحات التي أطلقت على لسان عدد من المسؤولين الليبيين بعد سقوط النظام، وتنسم لي مضمون بعض اللقاءات الخاصة لزملاء إعلاميين التقوا شخصيات ليبية تولت مسؤوليات في عهد القذافي، ومع ذلك لا يمكن التعويل على كل هذه المعلومات والتحقيقات في حسم مصير الإمام الصدر ورفيقيه، وإن كانت خلاصة هذه الأمور لا تميل الى التفاؤل.