IMLebanon

التصوف والسياسة

التداخل بين الدين والسياسة في المجتمعات العربية يضع محاولات إصلاح النظام العربي الرسمي أمام أفق مسدود، ما لم يكن هنالك محاولات جدية لإصلاح المجال الديني بشقيه النظري والتطبيقي. فحضور الإسلاميين في السلطة غالبا ما يكشف عن تجارب فاشلة، فيما تواجدهم خارجها يجعلهم اقرب إلى قطاع الطرق والعصابات منهم إلى المعارضة المشروعة. لهذا، يصبح الإصلاح السياسي متوقفا في جانب منه على الإصلاح الديني، باعتبار أن الجماعات الإسلامية، مع ما هي عليه من تخبط في الفهم والممارسة، هي المرشح البديل لملء أي شغور محتمل ناتج عن سقوط الأنظمة وتهافت السلطات.

ففي الزمن الداعشي يحتاج العالم العربي إلى إصلاح ديني، لكن لا على الطريقة الإحيائية عند محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وغيرهم من المفكرين المسلمين إبان عصر النهضة. أزمة هؤلاء أن محاولاتهم الإصلاحية لم تتعد الجانب النظري من كتب ومحاضرات بعيدا من واقع المسلمين الذي ظل أسير الجهل والتخلف. فيما الإصلاح المطلوب اليوم لا يجدي معه التجديد في فهم النص الديني وإعادة إنتاجه تنظيريا. الحل يكمن في توجيه الطاقة المعنوية لدى الناس من الكراهية إلى المحبة، ومن الغريزة إلى الفطرة، وذلك عن طريق إعادة خلق التجربة الدينية المجتمعية على نحو يشبه التجربة الفردية في العرفان والتصوف.

في الأصل، التصوف غير جهوي ولا ينحصر في دين أو مذهب. هو بحد ذاته إنساني وليس إسلاميا أو مسيحيا، حتى لو كان المتصوفة بانتماءاتهم الدينية مسلمين ومسيحيين. وبعيدا عن حساسية البعض من المصطلح ودلالاته، فان وظيفة المتصوف هي إخراج التدين من جمود الاعتقاد إلى رحابة الإيمان، ومن قيود الشريعة إلى أفق المحبة، تبعا لابن عربي الذي أعلن انتماءه إلى «دين الحب انى توجهت ركائبه».

ليس المقصود مما تقدم تحول عموم الناس إلى متصوفة، بل اشاعة قيم التصوف بما تحمله من محبة وتسامح بدلا من المنظومات العقدية والفكرية المتصارعة. إشاعة التدين على أساس الشحن الاعتقادي بات باعثا على الفرقة والصراعات. ذلك ان مقابل كل فكر ديني متمذهب، فكر آخر يرفضه ويدحضه. ومقابل كل مشروع ديني جهوي ثمة مشروع في جهة أخرى يتعارض معه. وحده التدين الصوفي القائم على التسامح والرحمة يمضي بعيدا عن جدل العقائد وصدام المشاريع.

على ان التصوف ليس انعزالا عن المجتمع واستقالة من شؤون السياسة، بل هو علاقة رأسية بين الإنسان والله يعاد إنتاجها بروابط أفقية، بين الإنسان والإنسان على أساس من القيم والأخلاق. فالمزاوجة بين التصوف والسياسة ليست بدعا من القول. يشهد على ذلك في العصر الحديث الجنيدية في المغرب العربي والمولوية في تركيا والخمينية في إيران.

في العام 2007، أصدرت مؤسسة «راند» دراسة تدعو فيها المسلمين إلى تبني التصوف بوصفه «قادرا على تذويب حدة التباين الإيديولوجي بين الإسلام والحضارة الغربية». حاجة المسلمين اليوم إلى اشاعة ثقافة التصوف تتخطى مثل هذه الدعوة غير البريئة التي تهدف في العمق إلى إبعاد المسلمين عن السياسة. هي حاجة قائمة حاليا من أجل المسلمين أنفسهم وإصلاح أحوالهم ومجتمعاتهم، قبل أن تكون دعوة لتحسين صورة الإسلام أمام الآخرين.