لم يعد ممكناً إخفاء تهالُك وتداعِ العهد «القوي» بعد انقضاء نصفه الأوّل، حيث سجّل تراجعاً فاضحاً في ميادين عدّة بفعل التجاوزات الفاضحة للدستور، والتجاذبات السياسية بسبب المصالح الشخصيّة، والممارسات الكيديّة والالغائية لرموزه، والهفوات والأخطاء على الساحة الداخلية وتجاه المجتمع الدولي. وقد اثبتت الوقائع انه غير قادر على التصدّي للمخاطر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتفاقمة المحدّقة بالوطن بعد ان تداعت قدرة الرئاسة الأولى على تشكيل نقطة التقاء وطني ولعب دور الحكم بين القوى السياسية المتباينة، وتشكيل خط الدفاع الاوّل عن الدستور.
اختلال موازين القوى وتجاوزات دستوريّة
أخطر ما سُجّل على العهد هو اختلال موازين القوى والتجاوزات الفاضحة لأحكام الدستور واتفاق «الطائف»، حيث يواصل العهد محاولاته لتطويق رئيس الحكومة بدءاً من صدور بيان رئاسة الجمهوريّة الذي تناول معايير جديدة لتشكيل الحكومة، وبدعة «حصّة رئيس الجمهورية الوزارية» للالتفاف على الدستور، والتهديد بسحب تكليف رئيس الحكومة المُكلّف، وتوقيع وزراء «العهد» استقالاتهم مسبقاً ووضعها بتصرُّف رئيس «التيار الوطني الحر»، وتفويض وزير الخارجية ليقوم بمهام رئيس الجمهوريّة لجهة التشاور والتعاطي مع رئيس الحكومة، واجتماع وزراء «التيار» في مقر وزارة الخارجية في الوقت ذاته لموعد عقد جلسة مجلس الوزراء.
وهناك مسألة انعقاد جلسات مجلس الوزراء خلافاً للدستور الذي ينصّ في المادة ٦٥ منه على ان «يجتمع مجلس الوزراء دورياً في مقر خاص ويترأس رئيس الجمهورية جلساته عندما يحضر»، ويقع المقر الخاص لمجلس الوزراء في شارع المتحف في بيروت. لكن العهد اعتاد ان تعقد جلسات مجلس الوزراء في القصر الجمهوري او قصر بيت الدين عندما تكون بنود جدول الاعمال دسمة، بينما تعقد الأقل اهميةً في السراي الكبير، في حين يجدر عقدها في السراي الحكومي مؤقتاً الى حين جهوزيّة المقر الخاص لمجلس الوزراء.
كذلك سُجّل مراراً تجاوز اتفاق الطائف والعودة إلى ما كان قبله، بحجّة «استعادة» حقوق المسيحيين والحفاظ عليها، من خلال حصر كل الصلاحيات بيد رئيس الجمهورية والتعاطي مع رئيس الحكومة وكأنّه «باش كاتب»، وذلك عبر تحكُّم الرئيس بقرارات مجلس الوزراء وفرض إرادته والتفرّد بسياسة الدولة العامة، فيما ينصّ الدستور على ان الحكومة التي يرأسها رئيس مجلس الوزراء هي التي تملك سلطة البت في رسم السياسة العامة الداخلية والخارجية للدولة وهي المسؤولة امام السلطة التشريعية.
وسُجّل تعاطي المحسوبين على «العهد» مع الدستور باستنسابية، وتطبيق المناصفة انتقائياً بما يتماشى مع مصالحهم، خصوصاً أن المادّة ٩٥ من الدستور لم تنصّ على المناصفة في كافة المراكز والوظائف، بل حصرت المناصفة بأعضاء مجلس النواب وموظفي الفئة الأولى الى حين الغاء الطائفية السياسيّة.
اقتصاد هشّ، فساد مستشرٍ، واموال «سيدر»
سجّل لبنان بداية ٢٠١٩ معدّلاتٍ شديدة التدنّي على صعيد نمو الناتج المحلّي الحقيقي لامست الصفر، وهو ما يُنذر بوقوع انكماش اقتصادي نهاية العام الحالي. وقد أصدرت وكالات التصنيف الدولية قراراتها تجاه لبنان وخفّضت تصنيفه لاعتقادها أنه لا توجد خطة متوسطة الأجل ذات مصداقية لتثبيت الدين الحكومي وهناك عدم ثقة حيال لبنان بسبب عدم الاستقرار السياسي وعدم فعالية الحكومة وتدهور النمو الاقتصادي والمخاطر الجيوسياسية.
وبخصوص ملف موازنة عام ٢٠١٩ «التقشّفية»، فقد اقفل من دون قطع الحساب خلافاً لأحكام المادة ٨٧ من الدستور، وبعد ان تأخرت الحكومة اللبنانية ٧ أشهر عن إقرار الموازنة في موعدها الدستوري. وهي موازنة إعلاميّة هدفها تحقيق متطلبات مؤتمر «سيدر» على الورق. وقد حملت عاصفة من الضرائب والرسوم التي ستصيب الاقتصاد المتداعِ أساساً بالمزيد من الانكماش. وأقرّت المزيد من الإعفاءات والتخفيضات على الغرامات لصالح الشركات والمؤسسات التي لم تدفع الرسوم والضرائب للدولة، وهي حدّت من الضمانات الاجتماعية للطبقات «المستورة»، فيما تجنّبت ضبط الهدر ومكافحة الفساد في المرافق العامّة.
امّا مؤتمر «سيدر»، فينتظر المشاركون في المؤتمر ان يقوم لبنان بالإصلاحات اللازمة حتّى يتم صرف المساعدات الموعودة التي هي في معظمها قروض ميسَّرة لمشاريع تحتاج إلى متابعة حثيثة في التنفيذ. وفي زيارته الأخيرة لبيروت، أبلغ الموفد الرئاسي الفرنسي بيار دوكان المعنيين بأنّ المهلة الممنوحة للبنان لكي يلتزم الإصلاحات المطلوبة هي في حدود الشهرين. وقد يسحب البعض يده لأنّ عناصر الثقة في جدّية الإجراءات التي سيتخذها اللبنانيون ليست كافية وهم يعتقدون ان الشفافية معدومة في طريقة إدارة الدولة اللبنانيّة للأموال، حيث الفساد المتجذِّر يصعب اقتلاعه ومحميّ سياسياً وطائفياً ومذهبياً.
ممارسات الغائية ومصالح شخصية
سُجّل تغاضى رئيس الجمهورية عن مواقف رموز عهده المتطرفة والالغائية والتي خلقت مناخاً مشحوناً بالطائفية والمذهبية، ما قد يؤدي الى تفكيك الوحدة الوطنية، وضرب ميثاق العيش المشترك بكل مفاصله.
ولم يضع فخامته حداً لتصرفات بعض وزرائه الذين يتعاملون مع الوزارات الموكلة إليهم كملكيات خاصة لهم أو لطائفتهم وباتوا يراكمون إمكانات هائلة في الإدارة، حيث باتت أجهزة امنية برمتها في خدمتهم.
كما فتح «التيار الوطني الحر» ملفّ عودة «المبعدين الى إسرائيل» البالغ عددهم نحو ٣٤٠٠ شخص معظمهم من مسيحيي الجنوب، أمضوا نحو ٢٠ عاماً في كنف الكيان الصهيوني المحتلّ، وفي رعاية مؤسّساته، وقد أصبحوا ضمن نسيجه الاجستماعي والاقتصادي. وهذه القضيّة الشائكة تلامس حساسية مذهبية، وتستنفر انقسامات في الآراء بين مَنْ يؤكد أنّهم عملاء، وبين مَن يعتبرهم فارّين أو مُبعدين قسراً. وطرح الملف هدفه ترسيخ حضور الوزير باسيل في الوجدان المسيحي اللبناني ووضعه في رأس هرم القيادة المسيحية وفي مقدّمة السباق الرئاسي.
وفي ملف حادثة «البساتين» الذي أدّى الى «الاعتكاف» غير المُعلن لرئيس الحكومة وتعطيل انعقاد مجلس الوزراء بسبب التجاذبات حول المجلس العدلي، اختار رئيس الجمهورية أن يكون طرفاً في الصراع وفي موقع الخصم لبعض الأطراف، بعد إعلانه بطريقة مباشرة أنّ المستهدف من الكمين هو الوزير جبران باسيل، متخليًا بذلك عن دوره الحيادي كمؤتمن على الدستور والقانون والعيش المشترك، ومستبقاً نتائج التحقيقات والأحكام القضائية.
ازمة دبلوماسية واستفزاز السّنّة
اثارت تصريحات رئيس الجمهوريّة بشأن الحقبة العثمانية عشية الاحتفال بالذكرى المئوية لتأسيس لبنان الكبير استياء تركيا، عندما وصف ممارسات الدولة العثمانية بـ«الإرهابية» واتهمها بـ«إذكاء الفتن الطائفية وبقتل مئات الآلاف من اللبنانيين»، ممّا فتح الباب امام ازمة دبلوماسيّة زاد من وتيرتها تبادل البيانات المنتقدة بين الخارجيتين اللبنانية والتركية ومعها بعض التصريحات السياسية والتعليقات الصحافية وغيرها على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً بعد ان اكّد وزير الدفاع المحسوب على «العهد»، على تصريح رئيس الجمهورية من على منبر دار الفتوى مطلقاً تصريحاً اعتبرته الأوساط السنّية مستفزاً، ما دفع الكثيرين الى التطرّق الى حقبة الاحتلال الفرنسي والحملات الصليبية، علماً ان شريحة كبيرة من الشعب اللبناني تربطهم علاقات عاطفية وعائلية وتجارية مع تركيا.
خلاصة جردة حساب هذا العهد «القوي» أنه عهدٌ متداعٍ لا يجوز استمراره ولا التمديد له من خلال تولي أي جهة محسوبة عليه زمام الأمور مستقبلاً، خصوصاً الوزير جبران باسيل الذي يُعتبر الوريث السياسيّ للرئيس عون وامتداداً لعهده!