IMLebanon

في الخطاب السياسي اللبناني ومقولاته الفائتة

الحداثة ثورة معرفية شاملة. انقلاب جذري في القيم والأفكار والتصورات تبدل معه موقع الانسان في الوجود السياسي والاجتماعي من عضو في رعية، الى فرد تحكم علاقته بالسلطة تشريعات وقوانين، قوامها عقد اجتماعي بين مواطنين ومؤسسات هي النــقيـض التام للعصبيات والتكوينات العائدة الى القرون الوسطى وعقلها الأبوي الرعائي.

لكن، على رغم ذلك، لا يزال الخطاب السياسي اللبناني يفصح عن مقولات تنتمي الى ما قبل الحداثة وتستعيد العقل القروسطي الفائت. من هذه المقولات، مقولة «الرئيس الأب» المتداولة، والمستعادة من قاموس العقل الرعوي. فتعبير «أبوة» الرئيس عون للبنانيين يتكرر كثيراً اليوم، في حين أنه قدم من خلال انتخابات شعبية، وليس من خلال إرث قبلي أو عشائري. وهو بهذا تربطه باللبنانيين علاقة عقدية، لا علاقة «أبوة»، أو «أخوة» بلغة الخطاب القومي. وعليه فهو حاكم إزاء مواطنين، خاضع للمراقبة والمساءلة والمحاسبة، وليس أباً لعائلة، معصوماً، وفوق الرقابة والمساءلة.

مع مقولة «الأبوة» تتكرر مقولة «الميثاقية» الطائفية بدل الميثاقية العقدية الديموقراطية، على نحو تبدو معه السياسة اللبنانية تقاسماً للمغانم والحصص بين الطوائف، بعيداً من أي اعتبار للصالح العام الذي هو مناط السياسة في الدولة المدنية الحديثة، ما يمثل استعادة بائسة لنظام الملل العثماني، حيث تتدبر كل ملة شؤونها في دولة طوائف لا دولة «مواطنين» تحكمها العصبية الوطنية المتعالية على كل العصبيات.

وتتكرر في هذه الأونة كذلك مقولتا «السيادة» و «الرئيس القوي» كأنما لبنان في منأى عن ثورة العولمة حيث تغير مفهوم السيادة، وأصبح عالمنا قرية كونية واحدة. ففي عالم تحكمه شركات عملاقة عابرة للحدود والقارات، تسيطر على الاقتصاد والسياسة والاجتماع، أي معنى يبقى لسيادة لبنان وقوته، بينما هو في حاجة الى سواه في اقتصاده وعلمه وأمنه وسلاحه؟

على خلفية هذه الخطابات تبرز مقولة «المنقذ» الذي يمثله الرئيس عون، في ما يمثل استعادة للغة اللاهوتية من خلال الاتكاء على ألفاظ وتعابير ذات مضامين خلاصية. فصفات مثل «المنقذ» و «المخلص» السائدة في الخطاب السياسي اللبناني الراهن، تشي بأننا لم نخرج بعد من لاهوت القرون الوسطى وعقلها ما قبل المدني.

لكأني هنا بالرئيس عون، المنحاز الى الحداثة، يخاطب الجماهير إزاء هكذا مقولات، بقوله: يا شعب لبنان العظيم بصبره على المحن، المثقل بالديون والأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية، والذي تتنازعه الصراعات العصبوية، وتحرمه الهجرة من خيرة أبنائه، ويحيا قلقاً في منطقة ابتليت بالوجود الصهيوني، وبالصراع بين الطوائف والمذاهب والأمم. أنا لست مخلصاً ولا منقذاً بتفويض إلهي، بل أنا مفوض من قبلكم للعمل من أجل لبنان جديد. لبنان حضاري منتج للعلم والثقافة، يحتضن كفاءاته ويعامل مواطنيه بقدر حبهم لوطنهم وخدمتهم لأبنائه وكفاءتهم في الارتقاء بالمجتمع اللبناني.

تعالوا نفكّر معاً في دولة مدنية منزهة عن الأغراض الطائفية، فقد قادنا الخطاب الطائفي الى حروب أهلية قاتلة، وبات لزاماً علينا أن نفكر من منظور مختلف في خطاب آخر، خطاب قوامه العلم والتطلع الى المستقبل والمشاركة الابداعية في الحضارة الانسانية. خطاب المساواة المواطنية والقانون والنزاهة، لا خطاب تقاسم المغانم الطائفية على حساب الوطن. تعالوا نبعد السياسة عن الدين والدين عن السياسة، ونفكر معاً في الدور الذي يمكن أن نلعبه في منطقتنا التي تقف اليوم «على شفا جرف هارٍ»، وعلى غرار مفكري لبنان العظام، نرفع وطننا الى ما نتمناه من ريادة في محيطنا العربي. لقد طرح أولئك المفكرون أفكاراً قومية ووطنية وعلمانية ووحدوية وانسانية تجمع العرب وتحمي أوطانهم من التفكك العصبوي، وفي وسعنا أن نجترح على منوالهم أفكاراً عظيمة للوطن والأمة.

اذ ذاك فقط يكون الانقاذ والخلاص، ويبزغ للبنان فجر جديد.