هذا العالم العربي الغارق أو المُغْرَق بكل هذه التحركات الشعبية والسياسية الخطيرة التي تطاوله في صميم وجوده وتهدّد حاضره ومستقبله بكثير من الاحتمالات التي لئن بشّرت بعض ظواهرها ببعض من الخير وبرغبة شعبية كاسحة في قلب موازين الأوضاع من دكتاتوريات مطلقة وحريات مكبوتة، وديمقراطية قيد التوقيف والمنع المطلق، إلاّ أنها وقد انطلقت شراراتها التغييرية الشاملة في بعض بلداننا الملتهبة .
(الجزائر والسودان) وتخبّطت في بعضها الآخر في صراعات داخلية مختلفة الأسباب والدوافع حالت دون تحقيق انطلاقة مثمرة، بل تفاقمت أوضاعها إلى حدود مأساوية (ليبيا، العراق) وبالرغم من بعض البوادر المؤمّلة في الجزائر، والمترجرجة في السودان، فهي حتى الآن لم تصل إلى برّ الأمان، ولم تؤدِ إلى تحقيق غايات التحركات الشعبية الشاملة، وما زالت رواسب السلطة القديمة والخفية، تعبث بأوضاع بلادها، كأنما المقصود من حصولها، الإبقاء على حالات الاضطراب ومنع الشعب من الإمساك بمقدرات بلاده السياسية والاقتصادية، والإبقاء عليه في مهب التحكّم الخارجي الذي تثبت الأيام أن أياديه الخفية تنطلق في الغالب من الولايات المتحدة الأميركية مصحوبة بإسرائيل وبالهيمنة الصهيونية على القرار الأميركي، وصولا إلى أقصى وأخطر مراحلها المتمثلة بعهد الرئيس الأميركي الحالي ترامب وأعوانه على شاكلة صهره اليهودي الصهيوني كوشنير، كأنما بتنا في هذه الأيام في مرحلة الولادة لطموحات إسرائيل وحلفائها بعد سنوات طويلة من الحَبَلْ المدنّس منذ وعد بلفور ونشأة إسرائيل وتطورات القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، وها نحن نشهد العجب العجاب في ما نعانيه من وقاحة الموقف الأميركي وسعيه إلى تحقيق صفقة القرن بشتى الأساليب الضاغطة والمتآمرة والتي وصلت إلى حدود تصريح ترامب في أكثر من مناسبة متوجها إلى دولنا الغنية بطلباته الفظّة التي لا تعرف الوجل ولا الخجل: سأحميكم ولكن أعطوني ثمن الحماية!! وفي الواقع المؤسف أن ثروات معظم دولنا العربية هي في الجيب الأميركي وثرواتها مودعة، طوعا وقسرا في المصارف الأميركية، وقد زاد هذا الواقع حدّة وشدّة مع إطلالة العهد الترامبي الذي ما برح يخلق المشاكل ويساوم على حلّها، بل هو ومن وراءه ومن معه يقفون حائلا دون تحقيق الحلّ، كما هو الوضع في اليمن حيث كان بإمكان تحالف الدول الخليجية إنهاء التمرّد الحوثي بالقدرات الذاتية الطائلة والقادرة، وهذه الدول تُتْرك في نصف الطريق، ممنوعة من التحرك الحاسم، وقد تُركتْ مكتفية بما أمكنها تحقيقه من النجاحات العسكرية، التي تعلّق النزاع ولا تحسمه، لأن ترامب، ومخططاته للمنطقة وهدفه الرئيسي منها المتمثل بقلب أوضاعها رأسا على عقب بمشروع شيطاني الهوى والغاية، يبدأ بتحقيق صفقة القرن التي بدأت قولا وفعلا داخل إسرائيل بجملة من القرارات والتصرفات التي تنصلت من تنفيذ اتفاق الدولتين لتصل إلى التهرب الكامل من كل الالتزامات السابقة المكفولة دوليا بكل ما له علاقة بالقضية الفلسطينية وبحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه. ويشاع في كثير من الأوساط الأميركية أن الآتي أعظم، وأن المخطط له هو اقتلاع هذا الشعب الذي يشكّل حاليا قرابة نصف سكان فلسطين المحتلة، إقتلاعا كاملا، والإبقاء على المقيمين حاليا منهم في بعض البلاد العربية ومنها لبنان من خلال توظيف مشغول ومعدّ له بخبث وعناية، والدفع بالفلسطينيين المقيمين في الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى مناطق عربية اخرى والمطروح لها على ما يبدو، الأردن وجمهورية مصر العربية. هي في الواقع أقوال أقرب إلى الخيال، ولكن التهيئة لها قد بدأت في مراحلها التنفيذية على نحو ما هو حاصل من خلال المؤتمر الذي سيعقد في البحرين بطابع اقتصادي مموَّه، بزعم نصرة الشعب الفلسطيني والتقليل من معاناته الحياتية والمعيشية.
وفي هذا الخضم، لا نزال في لبنان نناقش أوضاع ميزانيتنا عن العام 2019 التي تكاد أن تنتهي أيامها وأن يطلّ علينا العام 2020، وهي إطلالة ستزخر على ما يبدو بأحداث جسام، يتم فيها العبث بالأرض العربية وبدولها ومؤسساتها، فسوريا يسودها الخراب والدمار والتقاسم وتطغى عليها وعلى أرضها أطماع دول عديدة أصبحت في الواقع الحالي متواجدة فيها تواجدا يحميه السلاح والفرض الجهنمي ومصالح النظام القائم، وجملة من المطامع الطائفية والمذهبية بعد أن بات هيكلا عظميا مفرغا من كل صنوف الوجود السياسي المستقل والسلطة الفعلية، وانطلاقا من هذا الوضع نتطرق إلى جحافل المهجرين السوريين في لبنان والذين تحدث عنهم السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير وذكر أنه مستمر حتى مرحلة انتهاء ولاية الرئيس الاسد الحالية وإجراء انتخابات جديدة في سوريا بعد حوالى العامين لأسباب لها علاقة بإرادات خارجية وبمواقف داخلية، مستبعدا أي موقف ممانع لتلك العودة من قِبَل النظام السوري! دون إشارة منه إلى أن هذا الهروب المكثف للشعب السوري من بلاده إلى شتى أصقاع الدنيا ومنها لبنان، هو نتيجة للظلم والتنكيل الذي طاول هذا الشعب من قبل النظام السوري ومن عاونه وسانده في طرد شعبه من بلاده، دونما تطرّق من قبلنا إلى حقيقة إمكانية العودة بهذه الملايين المشرّدة خارج وطنها في ظروف الحكم والتحكم القائمة، فهي مرجأة إلى ظروف مختلفة يستطيع فيها السوري العودة من لبنان والأردن وتركيا ومصر إلى بلاده دونما تعرّض إلى سلامته وأمنه، وهو يأمل في أن تكون إقامته في مدينته أو قريته أو حيّه في منزل كان له وقد حطمته البراميل المتفجرة وصواريخ الطائرات السورية والروسية.
دون أن نغفل في هذا المجال أن الوجود السوري القائم، له ثقلة الوازن على حياة الشعب اللبناني بأسره، خاصة في هذه الظروف الاقتصادية المتدهورة، التي يعيشها المواطن اللبناني وسط توقعات الحروب في المنطقة بما فيها تلك التي يمكن أن تدور على الأرض اللبنانية نتيجة للإحتقانات الإقليمية والدولية القائمة.
عالم عربي يغلي ويفور، وسط حياكة متقنة لجملة من المؤامرات عليه وعلى وجوده، ولئن كانت أوضاع الخلافات الداخلية في بعض البلدان العربية الثائرة تحول دون الحصول على حلول نهائية حاسمة، فماذا نقول عن بلادنا المقسمة قولا وفعلا إلى ثمانية عشر طائفة ومذهبا وسط تناقضات هائلة تُفشِلُ بعضها بعضا، وتحول دون أي قرار وطني شامل يمكن أن يعيد للبلاد وحدتها الحقيقية والثابتة في دولة واحدة غير مقسّمة إلى دولة وإلى دويلة. وقانا الله من مزيد من الاحتمالات السيئة والمخاطر المرتقبة.