IMLebanon

من يُريد وراثة نبيه بري وهو حيّ؟

 

الثابت الوحيد في “ترويكا” الحكم

في الثانية والثمانين من عمره لا يزال الرئيس نبيه بري في كامل لياقته السياسية والبدنية. ولكن على رغم ذلك هناك من يفتح دائماً مسألة خلافته. إذا كان ثمة من يريد أن يرثه وهو حيّ فالرجل ربما لا يزال يعتبر أنه يعمل في موقعه وكأنه باق أبداً وأنه إذا كان هناك تاريخ محدد بدأت فيه رحلته في السياسة فلا مجال لوضع تاريخ معيّن لتقاعده. العمر له حق عليه ولكن قد يكون يعتبر أنه هو من له حق على العمر.

منذ تبوأ سدة رئاسة حركة أمل في العام 1980 وهو في الثانية والأربعين من العمر لم يخرج نبيه بري من المعادلة. خاض أكثر من معركة لكي يبقى فيها وقد دفع أثماناً كبيرة لكي يحافظ على قوته وحضوره ودوره وإن كان حصل بعض التبدل في المواقع. كل الذين ترصدوه واجهوا استمراريته. العدو الوحيد الذي يخشى المواجهة معه قد يكون العمر ولكن موعد الحسم لا يدخل في اعتباراته الوجودية.

 

بداية الدور والوراثة

 

لم يكن من السهل وراثة موقع مؤسس حركة أفواج المقاومة اللبنانية “أمل” الإمام موسى الصدر. لقد أخفي الإمام في آخر آب 1978 وهو يتولى مهمة جعل الأمن في جنوب لبنان مهمة لبنانية وكان يسعى في جولاته العربية التي كانت ليبيا إحدى محطاتها لكي يتم تسهيل إرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب لتطبيق القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن الدولي بعد الإجتياح الإسرائيلي الأول، وكف يد المنظمات الفلسطينية التي اعتبرت أنها كانت السبب وراء ذلك الإجتياح. في تلك المرحلة شهد الجنوب مواجهات واسعة بين حركة أمل والمسلحين الفلسطينيين.

 

بدأت معركة وراثة نبيه بري منذ العام 1980. بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران لم تكن حركة أمل هي الباب الذي يمكن أن تنتقل منه تلك الثورة إلى لبنان. من رحم الحركة خرجت أولى الوحدات التي سمت نفسها “حركة أمل الإسلامية” وأيدت الثورة الإيرانية وشكلت في ما بعد أجزاء من تركيبة “حزب الله”. ولكن عمليات الخروج من الحركة لم تؤثر على هيكليتها لأنها كانت لا تزال جسماً كبيراً يحتكر التمثيل الشيعي بالإستناد أيضاً إلى المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى كهيئة دينية رسمية لبنانية أسسها أيضاً الإمام الصدر. خارج لبنانية الحركة والمجلس كانت هناك محاولة لخلق هوية جديدة للشيعة في لبنان.

 

النزوح من أمل

 

بعدما صار نبيه بري وزيراً للمرة الأولى في العام 1984، على عهد الرئيس أمين الجميل الذي كان في طريق عودته من خيار واشنطن إلى خيار التنسيق مع دمشق، لم يخرج أبداً من التركيبة السياسية. بعد انتفاضة 6 شباط بدا وكأنه مع حركة أمل يمتلك أقوى قوة عسكرية على الأرض في بيروت الغربية ولكنه في الواقع كان هذا الجسم القوي عرضة لأمراض كثيرة فتكت به. من المعارك ضد المخيمات الفلسطينية إلى المعارك ضد “حزب الله” كاد هيكل الحركة يسقط بعد سلسلة عمليات اقتناص القيادات الحركية المهاجرة إلى الحزب المولود من رحم الثورة الإيرانية على الأرض اللبنانية. هكذا نزفت الحركة استقالات وانسحابات واغتيالات. من عقل حمية المسؤول العسكري العام الذي استقال، إلى مصطفى الديراني مسؤول الأمن المركزي الذي التحق بالحزب، إلى محمود فقيه وداوود داوود وحسن سبيتي الذين قضوا اغتيالاً.

 

كان على نبيه بري أن يتنازل أولاً عن امتلاك القوة العسكرية لمصلحة “حزب الله” بعد تفاهم دمشق وإيران على هذا الحل مخرجاً من حرب “الأخوة” الشيعة مقابل الحفاظ على موقع بري في المعادلة الرسمية الداخلية على خلفية أن “حزب الله” لم يكن قد قرّر بعد إذا كان يمكن أن يكون شريكاً في التركيبة السياسية التي كان يرفضها ويعتبر أنها تحتاج إلى فتوى دينية تحلل هذه المشاركة. تلك كانت الوراثة العسكرية لدور حركة أمل التي خرجت عملياً من المواجهة وأصبح “حزب الله” متحكماً بمسار المقاومة في الجنوب.

 

كرسي المجلس

 

في العام 1992 عندما كان الحزب يدرس مسألة مشاركته في الإنتخابات النيابية كانت تلك الإنتخابات موعداً لتربع بري على موقع رئاسة المجلس النيابي. عندما أصبح النائب حسين الحسيني رئيساً لمجلس النواب في العام 1986 كان الهدف إزاحة الرئيس كامل الأسعد من المعادلة الشيعية. هذا صحيح. ولكن رئاسة الحسيني لم تكن إلا مرحلة انتقالية تمهّد لمرحلة بري الذي لم يكن أصبح نائباً بعد. كانت المرة الأولى التي يجبر فيها مجلس النواب على تقصير ولايته الممددة منذ العام 1972 والمطعّم بنواب جدد بعد الطائف ولم يكن أمام الحسيني إلا الموافقة على هذا الأمر. نتائج هذه الإنتخابات أعادته نائباً ولكنها كرست رئاسة المجلس لنبيه بري. منذ ذلك التاريخ بقي بري الثابت الوحيد في ترويكا الحكم. من انتخابات 1992 إلى انتخابات 1996 و2000 و2005 و2009 و2018 بقيت مطرقة الرئاسة بيده وظل يحمل قلم الرصاص يكتب أسماء ويمحو أسماء ويفتح أبواب المجلس النيابي ساعة يشاء. فهل دنت الساعة التي يمكن للبعض أن يسمح لنفسه بالرغبة في محو اسمه من رأس قائمة النواب؟

 

إلى ولاية جديدة

 

ثمة من يجزم بأن الرئيس بري سيكمل حتماً ولايته الحالية. وثمة من يجزم أيضاً أنه بعد حصول انتخابات 2022 سيبقى بري رئيساً لمجلس النواب. ولذلك فإن معركة وراثته صعبة المنال وهو حي يرزق.وراثة الرجل ليست حكراً على الموقع الثاني في تركيبة الحكم في لبنان. غيابه عن الساحة يفتح معارك وراثته في رئاسة حركة أمل. على رغم الجراح الكثيرة التي أصابت الحركة والحديث المتكرر عن تدني نسبة تمثيلها الشعبي قياساً على نتائج الإنتخابات المتكررة إلا أن الحركة لا تزال بقيادة بري أحد عمودي الثنائية الشيعية. من الواضح أن لا وجود للرجل الثاني في الحركة الذي يمكن أن يكون اسمه مطروحاً منذ اليوم ليكون الرجل الأول إذا غاب بري. حتى أن لا وجود بعد لمحاولات التوريث العائلي في الحركة. هناك من يعتبر أن الحركة من دون بري لن تكون بالمستوى الذي يؤهلها الإستمرار في لعب دور المكمل للثنائي الشيعي لأن الحضور السياسي والشعبي الذي يمثله بري لن يكون من السهل على أي كان بعده أن يملأه.

 

ثمة وراثة أخرى لمرحلة ما بعد بري تتعلق بالمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الذي لا يزال يعاني من الضعف منذ غياب الشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي اختلف كثيراً مع بري ولكن من دون أن يذهب بالمجلس إلى أحضان “حزب الله”. الحزب قد يريد القبض على هذا المجلس ليستكمل إدارة الطائفة الشيعية سياسياً ودينياً ورسمياً ولكن هذا القرار يحتاج إلى آلية للتطبيق قد لا يكون الحزب قد اتخذ الخيارات النهائية المتعلقة بها بعد على رغم أن المسألة ليست صعبة بالنسبة إليه.

 

الرئيس بري ليس غافلاً طبعاً عما يحكى عن مسألة خلافته ووراثته. هو الذي كان شريكاً في صناعة أكثر من رئيس للجمهورية وأكثر من رئيس للحكومة وأكثر من مجلس وزراء وأكثر من مجلس نواب لن تفوته هذه المسألة ولكن السؤال المطروح هو ما إذا كان يعمل جدياً على صناعة عملية وراثته. هل سيعمل على انتقال “السلطات” التي بين يديه قبل أن يغدره العمر؟سيّد نفسه

 

منذ انتخابات 2018 طرحت هذه المسألة أكثر من مرة. مع انتخاب اللواء جميل السيد نائباً عن دائرة بعلبك الهرمل مدعوماً من “حزب الله” قيل إنّ هذا الترشيح تمهيد لتوليه لاحقاً رئاسة مجلس النواب إن لم يكن في هذا المجلس فقد يكون في المجلس المقبل. وأعيد طرح هذا الموضوع مع الإشتباك الكلامي المستجد بين السيد وحركة أمل على خلفية انتقاده لما حصل من تعديات على المتظاهرين أمام مجلس الجنوب وإرسال بعض مناصري الحركة للتظاهر أمام منزله وتهديده بالتصدي لهم مخاطباً بري: “دولة الرئيس ضب أحمد بعلبكي أحسنلو”.منذ انطلقت ثورة 17 تشرين كان بري عرضة للتشهير في الشارع أكثر من مرة على أساس أنه من الذين شاركوا في عمليات الفساد وغطوا الفاسدين. ومن هذه الخلفية نزل مناصرون له إلى الشارع ليقتصوا من المتظاهرين. وكانت نزلة مجلس الجنوب إحداها. يوم الخميس 30 كانون الثاني حذر بري الحركيين من فتنة عمياء تدبر للبنان وطلب منهم “اتركوا الشارع”. هذه الدعوة لا تتعلق فقط بما يحصل في الشارع. بل ربما بمن يتخطى ما يمكن اعتباره الخطوط الحمر المتعلقة بالموقع الذي يمثله بري وبالدور الذي يلعبه وبمسألة البحث عن خلافته أو وراثته وهو حي. فهي ليست المرة الأولى التي يستشعر فيها تجريحاً وتلميحاً إلى انتهاء دوره وانتقاداً من البيئة التي يمثلها والتي تدعوه إلى الحذر أكثر على قاعدة “اللهم نجّني من أصدقائي أما أعدائي فأنا كفيل بهم”. وهو يدرك ومقتنع أن الأقدار بيد الله والأعمار بيد الله ويتصرف كأنه باق وعمر الآخرين قصير. صحيح أنه ألقى سلاحه مرة ولكنه لن يسلّم بإلقائه هذه المرة طوعاً. لا يزال يعتبر أن لديه “أمل” وأن من يفكرون بخلافته لا أمل لديهم.