موسى الصدر اكتفى بتأسيس شيعية دينية وبنى علاقات ودودة مع الطوائف الأخرى. النظام السوري هو الذي تولى تأسيس الشيعية السياسية مثلما تولت “الحركة الوطنية اللبنانية” تأسيس السنية السياسية، وكلاهما لمواجهة المارونية السياسية، فصار لـ”حركة أمل” دور مباشر يتراوح بين مقارعة الفلسطينيين وحلفائهم من الأحزاب اليسارية أو التعاون معهم بحسب ما تقتضيه السياسة السورية في لبنان، التي تولت بنفسها الاشتباك مع أحزاب الجبهة اللبنانية.
“حزب الله” تأسس في حضن المناخ السياسي في الثمانينات حيث تم تصنيف الطوائف بين وطنية وانعزالية، استناداً إلى المعيار السوري في الصراع العربي مع إسرائيل ولا سيما بعد احتلالها العاصمة بيروت. في مرحلة الوصاية أعيد الفرز والتصنيف فلم يعد لسوريا حلفاء في لبنان بل قوى حزبية من الإسلاميين واليساريين تأتمر بأمرها، وخصوم من الأحزاب المسيحية. في ظل هذه اللوحة شكلت “حركة أمل” رأس حربة لنظام الوصاية ولا سيما بعد معارك المخيمات في منتصف الثمانينات. بعد التحرير عام 2000 تبدلت أولويات النظام السوري واحتل “حزب الله” الدور الرئيسي في قيادة الشيعية السياسية ولا سيما بعد اغتيال رفيق الحريري.
طيلة مرحلة الوصاية بدا نبيه بري ضابط الإيقاع بين الطوائف بفضل علاقة التنسيق مع الحريري وجنبلاط، وعلاقات ذات طابع “ديبلوماسي” مع الأحزاب والشخصيات المسيحية من موقعه كرئيس للمجلس النيابي. بعد خروج الجيش السوري صارت قوى الثامن من آذار تعقد اجتماعاتها برئاسته لإضفاء طابع وسطي على موقفها، لكن موقف النظام السوري الحاد لم يترك للحيادية مجالاً فانعقد لواء القيادة الفعلية لـ”حزب الله” على الشيعية السياسية وعلى القوى الملحقة بها من أتباع النظام السوري.
ضيقت سوريا على حلفائها هامش المناورة والاعتدال وألغت المسافة الفاصلة بين طرفي الشيعية السياسية فباتت “حركة أمل” ملحقاً ميليشيوياً بمقاومة “حزب الله”، وأخذ موقف التنظيمين يتوحّد تباعاً وبشكل تدريجي حتى بلغ حد التطابق مع إقفال المجلس النيابي، ثم مع الإطاحة بحكومة سعد الحريري واستقالة الوزراء الشيعة ومن بينهم الوزير الملك الذي كوفئ بتعيينه رئيساً للجامعة اللبنانية.
خلال فترات الشغور الرئاسي وتعطيل المجلس النيابي حرص بري على تعويض فراغ المؤسسات باقتراحه عقد طاولة للحوار وفتحه أبواب مقر الرئاسة الثانية لمشاورات ولقاءات “بدل عن ضائع”، ما حفظ له، من حيث الشكل، أن يلعب دوراً توفيقياً ومعتدلاً بفضل ترؤسه المؤسسة السياسية الوحيدة المتبقية على قيد العمل في ظل شغور رئاسي وغياب حكومات مشلولة أو مستقيلة، وأن يبدو متمايزاً عن “حزب الله” في أمرين اثنين، الأول موقفه من انتخاب ميشال عون لرئاسة الجمهورية، والثاني تدخله الناجح في مناطق نفوذ “حزب الله” في البقاع لإطلاق سراح مخطوفين لبنانيين ومن العرب.
ثورة 17 تشرين كشفت قناع التمايز إذ تناوب على الاعتداء على ساحتي رياض الصلح والشهداء مواكب الموتوسيكلات القادمة من الضاحية وحرس المجلس النيابي القريب من الساحتين، وعلى ساحات صور وصيدا والنبطية ميليشيات الشيعية السياسية بوجوه سافرة وأسماء معروفة.
“حزب الله” وحده تعرّض منذ ما بعد التحرير لحملات من جانب خصومه في شأن علاقته بإيران وتمسّكه بالسلاح من خارج الشرعية وسعيه إلى السيطرة على مفاصل الدولة، وهو لم ينكر أياً من هذه التهم، أما بري فلم تنل منه الحملات لأنه اعتصم في مقره وبدا فوق شبهات العلاقة مع النظام السوري بعد أن كلّف من يمثله للقيام بهذه المهمة.
خلافاً للأمين العام لـ”حزب الله”، نبيه بري مقلّ في الكلام والتصريحات والإطلالات الإعلامية، ما عدا خطابه السنوي الذي كان يبدو فيه على الدوام حريصاً على مؤسسات الدولة وعلى الوحدة الوطنية، إلا أنه في خطاب هذا العام بمناسبة غياب السيد موسى الصدر، ومن موقعه كرئيس لـ”حركة أمل”، شنّ هجوماً على القضاء الذي “تجرأ” على استدعاء ممثله الشخصي إلى التحقيق، ثم على الادعاء عليه، واستكمل الهجوم بتوظيف دوره كرئيس للمجلس النيابي في النيل من استقلالية السلطة القضائية، متبادلاً الأدوار مع رئيس الجمهورية في هذه المهمة.
القضاء يا دولة الرئيس، وأنت سيد العارفين، سلطة كباقي السلطات، بل هي الأهم بينها. لأنها هي المخولة بإحقاق الحقوق والمؤتمنة على سيادة القانون أي على السيادة الوطنية بما هي، في جزء منها، سيادة الدولة على المواطنين، كل المواطنين، بمن فيهم الرؤساء والنواب والوزراء.