IMLebanon

بري: ما حَدا بيهَوّل عليّي

 

 

معروف عن نبيه بري أنّه الأكثر خبرة بواقع هذا البلد، الذي احترفت مكوّناته السياسية الخلاف والانقسام على كلّ شيء حتى على جنس الملائكة.

خصومه قبل مؤيّديه، أقرّوا بأنه فرض نفسه الرقم الصعب في كل المعادلات والعهود، وحاجة للجميع وجسراً بين الجميع، وشهدوا له إلمامه الدقيق بالتركيبة اللبنانية وتوازناتها، واحترافه ترويض السياسة واختلافاتها وتقاطعاتها، ودوزنة عقدها، وتدوير زواياها ومثلثاتها ومربعاتها ومستطيلاتها، وحنكته في دوزنة المواقف والعقد، وجعل الأزمات فرصاً لاستيلاد مخارج وحلول تكسر الابواب المغلقة.

وشهدوا له أيضا أنّ الحوار مبتدؤه وخبره وأقصر الطرق الى صون لبنان واستعادة مؤسساته الدستورية لدورها وفعاليتها، والى انتظام الحياة الوطنية بشكل عام. وانه أول من يهبّ الى النجدة حينما يشعر أن البلد يقترب من أن يدخل في غيبوبة سياسية قاتلة، فينادي الجميع في اللحظة الحرجة ليركبوا معه السفينة الى شاطىء الأمان. محطات كثيرة شهدت على ذلك في حوار اذار 2006 حينما كان البلد يُحتضر، وما تلاه من جولات حوار وتشاور في مجلس النواب وعين التينة، وآخرها مع بداية ولاية المجلس النيابي الحالي، حينما توجه الى النواب بقوله «انّ على مجلسنا هذا تقع مهمة انقاذ لبنان، فلنكن واحداً ولنتلاقَ ونتحاور ونتفق على رئيس للجمهورية، لنحقق ما يتوق اليه شعبنا المنكوب».

 

ومعروف عن بري أيضا قوله الدائم ان في لبنان لا توجد عداوات بل خصومات، وترجمة لقوله هذا لا يعدم وسيلة للتنقيب عن المشتركات معها والبحث عن نقاط التقاء معها، لكنه لا يطيق الجهل السياسي ومراهقاته التي شوّهت السياسة. والحقد في مفهومه هو علّة العلل فكيف اذا كان أعمى، واذا اجتمع هذا الحقد والسياسة معاً فثالثهما الكارثة حتماً. واكثر ما يمقته هو «الغنج الهابط» الذي شوّه السياسة في بلد اكثر ما يحتاجه هو رجال دولة ومسؤولية سياسية ووطنية. اما ابطال هذا الغنج فكائنات تعمشَقت على السياسة في لحظةِ حظ، وما كان لها أن تحضر على المسرح لولا بعض بقايا كسور الصوت التفضيلي.

 

ومعروف ايضاً أنّه في لحظات الإفتراء عليه بالسياسي والشخصي، كثيراً ما «يكظم غيظه ويطنّش»، ولكنه امام المسلّمات والثوابت يصبح نسرا جارحا ولا رحمة بالمعنى السياسي لمن يتجاوز المحرمات والخطوط الحمر ويحاول ان يكسر التوازنات ويحاول ان يفرض وقائع تهدد تركيبة البلد. اما أمام محاولات الضغط عليه، ولَي ذراعه بالترهيب والتهويل، وإكراهه على ما هو غير مقتنع به، فهنا «يجوهر». ولطالما ردّد في حالات كهذه: «إجِت والله جَابها، يفرجوني شو بدّن يعملو، يلَحّقو عليّي اذا فيهم».

 

مناسبة ما تقدم هو الحملة الشرسة على بري، التي تقودها جوقة يبدو انّه أُوحي لها للخروج من مغارة الجهل، واتهامه بإقفال ابواب المجلس النيابي وتعطيل انتخاب رئيس للجمهورية. مع تسخير بعض المنابر السياسية والاعلامية للتهويل والتهليل بأنّ نبيه بري قد أُدرج على لائحة العقوبات. على انّ المعلومات الموثوقة التي توفرت حول هذه الحملة ومغزاها وتوقيتها والدافع اليها في هذا التوقيت بالذات، تؤكد أن «المايسترو معروف»، فهذه الحملة وما يروّج معها عن عقوبات على بري، هي من تأليف واخراج «لوبي لبناني» يمتّ بالولاء والانتماء السياسي لأحد أحزاب المعارضة، يتواصَل ليلا ونهارا مع الاميركيين ويتوسّلهم فرض هذه العقوبات. وصبّت في اطار هذه الحملة، حركة اللقاءات والزيارات الى الكونغرس وغيره من المستويات الاميركية، التي قامت بها «خَلطة» من نواب يصنفون أنفسهم سياديين واستقلاليين، حرضوا على ما سمّوه «تعطيل الرئاسة وان بري مسكّر المجلس». وأُوكِل لمنصّات اعلامية محسوبة على هذه المعارضة مهمة اطلاق العنان لهذه العقوبات واغراق الداخل اللبناني بإرباكات.

 

عندما يسأل بري عن هذه العقوبات، يأتي جوابه متهكماً: «مش عم نام الليل، هنّي مفكّرين انو يتهوّل عليّي، او انهم بيحشروني، وجوابي لهم مختصر ومفيد، ورد في بيان مكتبي الاعلامي، وخلاصته قدّموا مرشّحين جَديّين ليتنافسوا، وساعتئذ ننزل الى المجلس ولينتخب المجلس النيابي من ينتخب. وامّا من دون ذلك، فلستُ على استعداد لأن ادعو الى جلسة وانزل الى المجلس لكي اكرّر مسرحية الفشل».

 

ويضيف: «11 جلسة فاشلة عقدناها، وهم قدموا مرشحا اسمه ميشال معوض، وفي احسن الحالات كان ينال معوض 42 صوتا او 43، ونحن كنا نصوّت بورقة بيضاء. طيّب صارت المسألة مسخرة او مضحكة، وشو بدكن تسمّوها سموها، وما عاد فينا نكمّل هيك. ومن باب فتح الباب على الجدّ، اعلنت علناً دعم ترشيح الوزير سليمان فرنجية، وكذلك فعل «حزب الله»، وصار معروفا ان فرنجية مرشح، وقلت صراحة تفضّلوا اختاروا مرشحكم او مرشحيكم لننزل الى المجلس لننتخب في جو تنافسي ديموقراطي، ومن يومها لم نسمع منهم شيئاً، سوى الهروب الى الامام والعزف على وتر تعطيل الانتخاب وإقفال ابواب المجلس النيابي».

 

وعندما يُقال لبري ان المعارضات تقول انها توافقت على الوزير السابق جهاد ازعور، وانه بات يحظى 68 صوتاً، يقول بري: «قبل الحديث عن بونتاجات واصوات وارقام بالطالع وبالنازل، هل اتفقوا عليه؟».

العزف على وتر اقفال المجلس ومحاولة الضغط على رئيس المجلس لفتحه خلافاً للاصول، والتصويب على نصاب انعقاد الجلسة بالثلثين، ليسا جديدين على بري، بل ان هذا العزف موسمي على ما يقال في عين التينة. ولنعُد بالذاكرة الى مرحلة صعود ما كان يسمّى فريق «14 آذار» ما بعد العام 2005، في تلك الفترة كانوا يشكلون الاكثرية ومعهم كل العالم من دون استثناء من اميركا الى فرنسا الى بريطانيا وكل العرب، وسَعوا جهدهم للاطاحة بالدستور وانتخاب رئيس جمهورية بالنّصف زائدا واحدا، ولم يتمكنوا من ذلك، لسبب وحيد قيل لهم آنذاك، وخلاصته ان الطائف يرقى الى مستوى القداسة السياسية، والمَسّ به من المحرمات، وهو بالتالي في رأس قائمة مسلّمات بري وثوابته. والدستور هو الكتاب الذي لا حياد عن مندرجاته، ولا تحوير لنصوصه، ولا تفسير لمواده وفق الهَوى السياسي او الطائفي او المذهبي، والرئيس بري لن يسجّل عليه انه خالف الدستور. وتبعاً لذلك فإن المجلس النيابي وخلافاً للادعاءات والاتهامات الباطلة ليس مقفلاً على الإطلاق، هو بالتأكيد ليس مفتوحا للمسرحيات، بل هو مفتوح للانتخاب عندما يعلن عن المرشحين الجديّين، وساعتئذ يوجه الرئيس بري الدعوة الى جلسة وفق صلاحياته المنصوص عليها في الدستور، التي لا يؤثر فيها تحريض سياسي او اعلامي، ولا الاستعانة بالخارج على الداخل على ما تقوم به بعض مكونات هذا الزمن الرديء.