قصد الرئيس نبيه بري المصيلح الخميس الماضي، بعد غيابه فترة طويلة عنها، كان يرغب في تمضية استراحة خاصة في دارته، ليومين أو ثلاثة على أن يعود بعدها لرعاية المصالحة الدرزية الدرزية، وإعادة لغة التواصل والحوار المباشر والهادىء بين وليد جنبلاط وطلال ارسلان، وإجلاسهما على طاولة الخبز والملح على مأدبته في عين التينة اليوم الاثنين. وهي مبادرة منه سعى إليها منذ فترة، وكان يعوّل من خلالها على أنها تطفىء فتيل الاشتباك داخل الطائفة الدرزية، وتسدّ واحداً من الثقوب التي تعتري الجسم اللبناني. فكل شرارة تطفأ وكل ثقب يسدّ، يشكل خدمة كبرى للاستقرار الداخلي، وكان ارتياحه كبيراً للتجاوب الذي لمسه من الطرفين مع مبادرته هذه.
في المصيلح، إستغلّ بري لطافة الطقس، ونسماته الباردة الكاسرة لِسمّ الحرارة، التي هرب منها من الطقس البيروتي ورطوبته الخانقة، وحلت «القعدة» والاسترخاء في حديقة الدار، كان هذا المناخ بمثابة الوصفة الملائمة لِتَنَفّس شيء من ضغط الرسميّات ومتابعة المشكلات.
لكنّ الرياح هبّت بغير ما يشتهي بري؛ كان كلّ شيء هادئاً نهاراً، لكن لم يطل الوقت حتى انقلبت الصورة رأساً على عقب، واستراحته التي أرادها، تعكّرت بالكامل، بأخبار الدولار الذي بدأ يسجل اعتباراً من ظهر الخميس، قفزات خيالية، وتخطى الخمسة آلاف ليرة، بالتوازي مع يد خفيّة حرّكت مواقع التواصل التي ضخّت وعلى فترات متتالية شائعات وروايات عن طَلب كثيف وغير مسبوق على الدولار، ولقد رَفعه هذا الطلب الى ستة آلاف ليرة ثم دفعَ به الى ما فوق عتبة السبعة آلاف ليرة.
أوّل ما تبادر الى الذهن هو «أنّ ما يجري ليس بريئاً؛ فلا مصارف «فاتحة»، ولا محال صيرفة، هذا أمر ليس مطمئناً ويبعث على القلق، وما يخشى منه ان يكون خلف الأكمة ما خلفها، هناك تعمّد واضح وفاضح في تحريك الدولار، ودفع الأمور الى هذا الحد، ولكن من هي اليد الخفية التي أوعَزت بهذا التحريك والتي تديره؟ ولأيّ هدف؟ والاهم انه لا بد من المبادرة فوراً الى إجراءات وقائية، ولكن كيف؟
الناس صارت في الشارع، ومع ساعات المساء بدأت التجمعات تتزايد، وتمركزت في النقاط التقليدية التي اعتيد عليها كنقاط تجمّع للمحتجّين بعد 17 تشرين الاول، أما السّاحة الاساس فكانت وسط بيروت، قبالة السرايا الحكومية. وبكبسة زر، بدأ الاحتجاج يشتدّ ويأخذ طابعاً عنفيّاً ضد الحكومة وحاكم مصرف لبنان، وتواكَب مع دعوات لإسقاطهما معاً، ومحاولات متتالية قام بها محتجّون لاقتحام الاسلاك والدعائم الاسمنتية المحيطة بالسرايا.
كانت أخبار ما يجري تَصل تباعاً الى المصيلح، فصار القلق مزدوجاً؛ قلق من «هجمة الدولار»، وقلق أكبر من الانفلات الامني، الرئيس بري باشَر بجولة اتصالات مع المراجع العسكرية والأمنية لاحتواء الوضع ومنع تَفلّت الامور الى ما لا تحمد عقباه. وفي هذا السياق جاءت توجيهاته في كل الاتجاهات للحفاظ على الاستقرار الداخلي.
هذا في الوقت الذي كان التواصل مفتوحاً بين السرايا الحكومية والقصر الجمهوري، وكذلك بين الاجهزة العسكرية والأمنية، لأنّ ما يجري بدأ يأخذ مَنحى يهدّد بتطورات خطيرة. وثمة من سَجّل مآخذ على بعض الاجهزة التي لم يكن أداؤها وحضورها بمستوى ما جرى الخميس، وما يتطلّبه من حضور فاعل وإجراءات رادعة للمتسبّبين بالفوضى.
التواصل الهاتفي بين السرايا والقصر الجمهوري عكسَ قراءة موحدة للاحداث، بأنّ هناك مؤامرة تُحاك، كان رئيس الحكومة في ذلك الوقت قد حسم قراره بإقالة حاكم مصرف لبنان بوَصفه المسؤول عن ارتفاع سعر الدولار، ولاقى تناغماً في القصر الجمهوري مع قراره هذا، الذي فُسِّر على أنه مبادرة من رئيس الحكومة لاحتواء غضب الشارع وتبريده، واسترضاء للمطالبين بتطيير الحاكم.
فجأة تتدحرج «تسريبة» من السرايا الحكومية قبل نحو ساعتين من منتصف ليل الخميس، تعكس نيّة رئيس الحكومة بإقالة رياض سلامة. بالتزامن مع توجيه دعوة سريعة لعَقد جلستين لمجلس الوزراء، ما أوحى أنّ قراراً كبيراً سيتّخذ، خصوصاً انّ فتوى الاقالة جاهزة منذ المحاولة الاولى لإطاحته قبل اسابيع، وتستند الى المادة 19 من قانون النقد والتسليف، وتتهم سلامة «بالاخلال بواجبات وظيفته وارتكاب خط فادح في تسيير الاعمال».
مع تقدم الحديث عن الاقالة، ظلّت الاحتجاجات على غليانها، وصار الوضع يغلي سياسياً، والسؤال الاساس الذي أعقبَ تلك التسريبة: «إن صَحّ الكلام عن قرار تطيير سلامة، فهل هو مدروس؟ وهل تمّ تقدير تَبعاته وعواقبه؟ ثم هل هناك بديل جاهز ليعيّن فوراً مكانه؟ ومن هو؟ وإن لم يكن البديل جاهزاً فهل القرار هو الاكتفاء بالاقالة فقط؟ وما معنى الاقالة إذا كانت تهدف فقط الى تفريغ مصرف لبنان مِن حاكمه؟ وأكثر من ذلك هل الاقالة هي الحل المطلوب للمشكلة؟
بلغَ الخبر المصيلح، لم يكن وقعه مريحاً، بل رسَم في أجوائها علامات استفهام؛ المسألة ليست مرتبطة بشخص بالنسبة الى الرئيس بري، بل هي تتعلق بوضع ينبغي مقاربته بحكمة وتَبصّر لكي لا يفلت من أيدي الجميع، وأيّ خطوة كبرى يجب ان تراعي هذا الوضع، وتكون مدروسة خاصة لجهة تداعياتها المحتملة. وإنّ قراراً بحجم إقالة حاكم مصرف لبنان قد تترتّب عليه في هذا الوقت بالذات، الذي تتفاقم فيه أزمة الليرة والدولار، محاذير ومخاطر كبرى ونتائج غير محسوبة على الليرة وعلى الوضع الاقتصادي والمالي بشكل عام.
وعلى ما يقول الراوي المواكِب لأحداث الخميس، فإنّ رئيس الحكومة كان واثقاً من انّ «حزب الله» لا يمانع إقالة سلامة، لكن ما يعني دياب هو موافقة رئيس المجلس. ومن هنا كانت حركة اتصالات متتالية على الخطوط السياسية كلها ضمن الفريق الحكومي، واستمرت حتى ساعة متقدمة من ليل الخميس الجمعة، وحضر فيها المعاون السياسي لرئيس مجلس النواب النائب علي حسن خليل، وكذلك المعاون السياسي للأمين العام لـ»حزب الله» الحاج حسين خليل. والجواب الذي تَلقّاه دياب في هذا الشأن مفاده «إن كانت لديكم ضمانة بعد إقالة رياض سلامة ألّا يرتفع الدولار الى 15 و20 ألف ليرة، أعطونا إيّاها».
وعلى ذمّة الراوي، فإنّ رئيس الجمهورية وضع في صورة الجواب الذي تلقّاه دياب، ليسود بعد ذلك الحديث ليلاً عن انّ جلستي مجلس الوزراء ستنعقدان بلا قرار حول الحاكم لغياب الإجماع المطلوب عليه.
الرئيس بري، بقي مع أحداث الخميس «سهراناً» حتى ساعة متقدمة من فجر الجمعة، وأمضى كل هذا الوقت في اتصالات مفتوحة مُتابعاً ومواكباً للتطورات الأمنية والسياسيّة، وخَلد الى النوم متأخراً، مُراهناً على ان يعوّض صباحاً ما سَهره ليلاً حتى الفجر، لكنه تلقى اتصالاً من رئيس الجمهورية يدعوه فيه الى الاجتماع الرئاسي في القصر الجمهوري، ما حمله الى قطع «استراحته»، والعودة صباح الجمعة جوّاً الى بيروت، حيث تلقى اتصالاً من رئيس الحكومة ظهراً، وكان استعراض للوضع من كل جوانبه.
في لقاء بعبدا، كانت النظرة الرئاسية مشتركة الى انّ ما حصل من لعب بالدولار متعمّد وخبيث، ولا بد من الاجراءات الوقائية الفورية على كل المستويات، مع التأكيد على تطبيق قرار ضَخ دولارات من الاحتياط لدعم الليرة بالشكل المدروس حتى لا تأتي نتائجه عكسه. وأخذ بري على عاتقه أن يخرج للحديث الى الاعلام لِطَمأنة الناس.
امّا في ما خَص إقالة سلامة، فقد قدّم بري مقاربته للوضع بشكل عام، مشدداً على المعالجة الهادئة بعيداً عن أيّ خطوات من شأنها ان تعقّد الأمور اكثر بَدل أن تعالجها، وقرار إقالة حاكم مصرف لبنان أمر حسّاس يجب درس تداعياته، فضلاً عن انّ هناك عوامل عديدة يجب ان تتوفر حول هذا القرار وهي ليست موجودة، لعل أبرزها انّ أمراً من هذا النوع يتطلّب إجماعاً، ليس فقط في قلب الحكومة بل حتى في خارجها، والبلد لا يتحمل اشتباكاً إضافياً يفاقم الامور اكثر. ومقاربة بري كانت مُقنعة للرئيسين، ومن هنا جاء إعلانه بعد الاجتماع الرئاسي في القصر الجمهوري، رداً على سؤال، عما اذا كان الرؤساء قد بحثوا إقالة سلامة: «نحن بحاجة الآن لكل الناس، ولسنا بحاجة للاستغناء عن الناس».
ولكن ماذا بعد؟
تقول مصادر مواكبة لهذه المشكلة: حتى الآن نجا حاكم مصرف لبنان من محاولتين لإقالته، وطالما انّ «فريق الإقالة» مصمّم على ذلك، فليس مستبعداً ان نكون أمام محاولة ثالثة ورابعة في أي وقت. وفشل خطوة ضَخ الدولارات من الاحتياط سيُعجّل بذلك حتماً.