IMLebanon

الآخ الأكبر الأخ نبيه بري

 

فيما كان كثيرون ينتظرون أن يتلقّف رئيس مجلس النواب نبيه برّي كرة النار ويتصدّى لاستمرار “حزب الله” في قيادة لبنان إلى حرب مدمّرة، بقي يلعب دور الوسيط بين الحزب وواشنطن وإسرائيل بحثاً عن وقف إطلاق النار الذي كان مستحيلاً وأصبح أمراً واقعاً. في التفاوض لاتفاق ترسيم الحدود البحرية كان الرئيس بري هو المفاوض المفوّض على مدى أعوام. وفي الحرب الأخيرة كان هو المفوّض ولكن من دون الخروج عن تفويض “حزب الله” الممنوح له. يمون الرئيس بري على الحزب الذي خرج من رحم “حركة أمل”، ولكنه لا يخرج عليه حتى ولو كان مدركاً خطورة خياراته.

 

 

لا يمكن الرهان على الرئيس برّي في الذهاب نحو انتفاضة ضدّ واقع الطائفة الشيعية اليوم، وضدّ سيطرة “حزب الله” على هذه الطائفة وعلى القرار اللبناني. فهو لا يزال يتصرّف كأنّه أسير “الحزب” ومن ورائه إيران، وكأنّ الزمن توقّف في عام 1990 عندما أقرّ بواقع سيطرة “الحزب” العسكرية والسياسية والدينية على شيعة لبنان، وانهزامه مع “حركة أمل” أمامه.

 

 

وعلى رغم الاعتراض على تولي الرئيس بري عمليات التفاوض مع الوسيط الأميركي أموس هوكستين، باعتبار أن هذا التفاوض يجب أن يكون من صلاحيات رئيس الجمهورية الدستورية، إلا أن بري بقي يُعتبر الممر الإلزامي لهذه المفاوضات منذ حرب تموز 2006 على مدى أعوام توالى فيها على الرئاسة الرؤساء أميل لحود وميشال سليمان ميشال عون.

 

 

 

كرسي عين التينة

 

يكتفي الرئيس بري بالجلوس على كرسيه في مقر الرئاسة الثانية في عين التينة يستقبل ويودّع أموس هوكستين وغيره، ويُقفل مجلس النواب أمام استحقاق انتخاب رئيس للجمهورية ويتصرف كأنه الرئيس. ويتسلّم رسائل ويمرّرها إلى “حزب الله” وما بقي منه، ثم يردّ الجواب إلى المصدر الأميركي، وكأنّه ارتضى حتى تقوم القيامة، ببيعة “حزب الله” له على قاعدة أنّه الأخ الأكبر كما كان يسمّيه أمين عام الحزب السيد حسن نصرالله، قبل أن يتولّى هذا الأمر خليفته الشيخ نعيم قاسم.

 

 

لو ارتضى الرئيس بري في العام 1982 أن يكون هو، مع “حركة أمل، “حزب الله” لكان استمرّ حتى اليوم بلعب هذا الدور ولكان هو صاحب الدار والقرار. ولكن رفضه لهذا الأمر، أو لأنّ إيران الجمهورية الإسلامية لم تجد فيه وفي تنظيمه ما يلائم مصلحتها في تصدير الثورة والولاء لها على قاعدة ولاية الفقية وعلى قاعدة أنّ لبنان ليس إلا جزءاً من الجمهورية الإسلامية التي يقودها الإمام في طهران، كلّ ذلك جعله هدفاً للنار الإيرانية.

 

 

بين اجتياح 1982 واجتياح 2024 المستمر يلعب نبيه بري لعبته الأخيرة مع القدر. لا يبحث عن مستقبل لأنّ ماضيه صار وراءه ولأنّه ختم حياته السياسية والحركية برئاسة مجلس النواب المستمرة منذ العام 1992.

 

 

بعد اجتياح 1982 ارتضى بري أن يكون مشاركاً في “هيئة الإنقاذ” التي شكّلها رئيس الجمهورية الياس سركيس وكانت تضم إليه قائد “القوات اللبنانية” بشير الجميل، ورئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط وآخرين. ولأنّه ارتضى الجلوس إلى جانب بشير الجميل خوّنته إيران ولم تغفر له تلك الخطيئة. ولذلك كانت الخطوة الأولى في تأسيس “حزب الله” على أنقاض “حركة أمل” من خلال الانتفاضة التي نظّمتها إيران داخل الحركة وسمّتها “حركة أمل الإسلامية”.

 

 

صرخات الآخ

 

منذ ذلك التاريخ توالت صرخات الآخ ممن صار يسميه قادة “حزب الله” الأخ الأكبر. اعتقد أنّه بدعم من النظام السوري يبقى ويستمرّ. ولكن آماله كانت تنهار تباعاً. خاض انتفاضة 6 شباط 1984 ضدّ سلطة الرئيس أمين الجميل وقسّم الجيش اللبناني بينما لم يكن متنبهاً كثيراً للانتفاضات التي تخاض ضدّه في داخل “أمل” وداخل البيئة الشيعية. قضى على تنظيم “المرابطون” عام 1985 واحتلّ بيروت الغربية ثم طلب أن يخلع عنه قميص أمن بيروت الوسِخ. ثم خاض حرب المخيمات ضد الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة، وفي عين الحلوة والبرج الشمالي والرشيدية، بينما كان “حزب الله” يتفرّج عليه. طالما اعتبر أن أمن الجنوب والضاحية مسؤوليته ولكن منذ العام 1986 بدأ كل ما بناه ينهار أمامه، وعندما حاول أن يستدرك الأمر ويتصدّى لصعود “الحزب” ولعملية الانقلاب عليه، كان قد فات الأوان. “لقد قتلوا من رجال المقاومة أكثر مما قتلت إسرائيل”. هذا ما قاله عن الحزب عندما كان جرحه كبيراً بعد اغتيال داود داود ومحمود فقيه وحسن سبيتي في 22 أيلول 1988 في الأوزاعي ولم يجد حرجاً في اتهام “عملاء إسرائيل ومُشعِلِي الفتنة بالعملية”.

 

 

قاوم السقوط العسكري. لم يستطع أن يحسم المعركة ضد الفلسطينيين. وخاض أكثر من جولة قتال ضد “حزب الله” قبل أن يستسلم لمشيئة النظامين السوري والإيراني اللذين اتفقا عليه في دمشق عام 1990 لإنهاء الحرب بينه وبين “الحزب” على قاعدة أن يبقى الحزب تنظيماً مسلّحاً وأن يتولّى بري القيادة السياسية داخل الدولة. ولذلك كانت جائزته الدائمة رئاسة مجلس النواب.

 

 

 

طيب الإقامة في الخطوط الخلفية

 

اليوم بعد 33 عاماً تقريباً، لا يزال بري يستطيب الإقامة في هذا المنصب وفي منتجع عين التينة بينما كلّ قادة “حزب الله” تقريباً هاربون أو تعرّضوا للإغتيال. معظم ناس البيئة الحاضنة هائمون في الطرقات ومراكز الإيواء تُحرِّكهم كلمة من الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، ونبيه بري يتفرّج وينتظر بانتظار أن تقر عودة النازحين إلى بلداتهم المدمرة. تفرّج على “الحزب” يستنجد به في حرب تموز 2006 لدفع حكومة الرئيس فؤاد السنيورة إلى الموافقة على القرار 1701 في مجلس الأمن لوقف العمليات القتالية. وتفرّج عليه وشاركه في غزوة 8 أيار 2008 في بيروت الغربية ضد “تيار المستقبل”، وفي الشوف وعاليه ضد حليفه وليد جنبلاط. وتفرّج عليه يقاتل في سوريا دفاعاً عن نظام بشار الأسد. وفي خلال كل هذه المراحل بقي بري في الموقع الذي ارتضاه. شريكاً ضمن الثنائي الشيعي في تقاسم الحصة السياسية نواباً ووزراء وموظفين. وقليلاً ما كان ينتفض ضدّ الإتهامات التي وُجِّهَت إليه وإلى “حركة أمل” بالتآمر على “الحزب”. بعد حرب تموز اكتشف “الحزب” أدواراً قام بها مساعدون لبري من أجل إطالة مدة الحرب للقضاء على “الحزب”. ونشر عبر مواقع إعلامية موالية له فضائح تسريبات ويكيليكس. وبعضها طال مستشاره علي حمدان الذي يتولى اليوم متابعة تفاصيل الإتفاق على وقف العمليات القتالية مع الموفد الرئاسي الأميركي أموس هوكستين في السفارة الأميركية نفسها في عوكر.

 

 

 

ولكن تهديد بري بإنهاء وظيفة الثنائي أوقف هذه التسريبات. وتفرّج على “الحزب يواجه” اتهامه باغتيال الرئيس رفيق الحريري والمحاكمة أمام المحكمة الدولية. وتفرّج عليه يُستنزف في القتال في حرب المساندة على طريق القدس. وتفرّج عليه يتهاوى أمام ضربات إسرائيل. وكتب كلاماً مؤثّراً في وداع السيد حسن نصرالله بعد اغتياله. ولكنّه على رغم الخسائر التي تعرّض لها الحزب، وعلى رغم مطالبته بأن ينتفض لوقف هذا الانهيار إلا أنّه لم ينتفض. لا يزال أسير الهزيمة التي دفع ثمنها منذ العام 1990 وهو لا يجرؤ على الخروج من كنف “الحزب” حتى لو سقطت استراتيجيته. كأنّ انسيابه السلس في متابعة الطاعة لإرادة “الحزب” وإيران توحي كما لو أنّه يقول “لا تراهنوا على نبيه بري” الذي انتفض في 6 شباط لإسقاط اتفاق 17 ايار.

 

 

 

نبيه بري المقاتل انتهى. أكثر ما يمكن أن يقوم به أن يبقى ناقل رسائل بين من يعتبر أنهم كانوا أولاد “حركة أمل” وأبناء موسى الصدر وباتوا يلقبّونه باسم الأخ الأكبر، وبين السفيرة الأميركية أو أموس هوكستين. حتى لو كان البعض يعتبر أن الإتفاق الحالي مع العدو الإسرائيلي أسوأ من اتفاق 17 أيار.