لا تشكيك في جدية الرئاسة الفرنسية وحرصها على إنجاح مبادرتها اللبنانية. لا بل أكثر من ذلك، رصيد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بات كله على المحك. إما ينجح في مهمته المستحيلة، وإما يسقط، معنوياً أمام جمهوره، بسقوطها. وبالتالي أنّ تواجه مشاورات التأليف بعض العراقيل نتيجة العقوبات الأميركية والتعقيدات اللبنانية، فهذا لا يعني أبداً أنّ الرجل سيستسلم بسهولة ويرفع رايته البيضاء خروجاً من المستنقع اللبناني. وحين سيفعلها سيكون لبنان قد خسر آخر فرصه الإنقاذية. وإلى المجهول درّ!
حتى ساعة خروج ورقة العقوبات الأميركية بحقّ الوزيرين السابقين يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل، كانت مفاوضات التأليف تواجه واحداً من أبرز الألغام: مصير حقيبة المال. رئيس مجلس النواب نبيه بري يرفض المداورة تحت عنوان أنّ هذه الحقيبة هي بمثابة شراكة ميثاقية في السلطة التنفيذية لن يقبل بالتخلي عنها مهما كانت الظروف. هناك من حاول العمل على خطّ تدوير الزوايا من خلال تقديم طرح وسطي يقضي بالإبقاء على هوية الوزير الشيعية، ولكن أن يتولى رئيس الحكومة المكلف مصطفى أديب تسميته، ومن الطبيعي ألّا يأتي الأخير باسم استفزازي غير مقبول من الثنائي الشيعي.
في تلك اللحظة، كان هذا السيناريو أحد الاحتمالات المطروحة لتذليل العقبات أمام ولادة الحكومة، لا سيما لجهة الثنائي الشيعي وتحديداً الرئيس بري الممسك بالمفصل المالي عبر الحقيبة الأكثر دسامة. في المقابل كان البحث لا يزال جارياً عن فتوى سياسية لحقيبة الطاقة. بالمبدأ، يقفل رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل منافذ التواصل مع رئيس الحكومة المكلف تحت عنوان تقديم كل التسهيلات الممكنة والانكفاء عن التدخل في تفاصيل التأليف. كذلك يفعل مصطفى أديب الذي يتجنّب فتح “أبواب جهنم للمسايرة”، حاصراً قنوات مشاوراته بالمسؤولين الفرنسيين وبعض المقربين من آل ميقاتي. ولو أنّ بعض المتابعين لا يترددون في الإشارة إلى دور خفيّ لرئيس الحكومة السابق سعد الحريري في تزكية بعض الأسماء بمباركة فرنسية، مع أنّه يصرّ على نفي هذا الدور. ولكن مع دخول العامل الأميركي بقوة على خطّ التأليف من خلال رسم خطوط حمراء لبعض الحقائب الأساسية والتي عبّرت عنها الدفعة الأولى من العقوبات، باتت مشاورات التأليف تواجه أكثر من استحقاق:
– أولاً، المهلة الزمنية المحددة وفق العقارب الفرنسية والمفترض أن تنتهي يوم الاثنين المقبل، من دون أن يتضح ما اذا كانت المهلة المتبقية كافية لصياغة مسودة حكومية مقبولة من جميع الأطراف وتحديداً من رئيس الجمهورية ميشال عون ومن رئيس مجلس النواب.
– ثانياً، الدفعة الثانية من العقوبات الأميركية والتي من شأنها أن تزيد المشاورات تعقيداً اذا ما طالت شخصيات رئيسية مؤثرة بشكل يصبّ الزيت على النار، ولا يهدّئ من روعها.
– ثالثاً، مع صدور العقوبات بات رئيس مجلس النواب وفق المتابعين أكثر تشدداً في ما يخصّ حقيبة المال، خصوصاً وأنّه يعتبر تصنيف علي حسن خليل على اللوائح الاميركية السوداء استهدافاً سياسياً شخصياً له، ومن الطبيعي أن يكون رد فعله أكثر تصلّباً لا ليونة. من هنا يقول المتابعون إنّ بري لم يعد يرضى بالصيغة التي سبق وحاول جسّ النبض تجاهها، وعاد إلى المربع التقليدي بمعنى أن يتولى هو بنفسه تقديم سلسلة أسماء على أن يختار مصطفى أديب أحدها لتسميته وزيراً للمال. يجزم المتابعون بأنّ هذه الصيغة كان من الممكن أن تمر لو أنها لا تفتح أبواباً موصدة بحيث سيضطر بفعلها، رئيس الحكومة المكلف ومن خلفه الفرنسيون، الى مسايرة بقية القوى اللبنانية في مطالبها، وفي طليعتهم “التيار الوطني الحر” وخلفه رئاسة الجمهورية في ما خصّ حقيبة الطاقة. ولهذا يؤكد هؤلاء أنّ الفرنسيين لن يتركوا هذا الترف للقوى اللبنانية، لأنّ المسايرة في مطرح ستجرّ معها مسايرات في أكثر من مطرح. وما سيسري على “المال” قد يطالب به كفتوى لـ”الطاقة”. من هنا يجزم المتابعون بأنّ الفرنسيين لن يقعوا في هذا الفخ ويصرون على أن يتولى رئيس الحكومة المكلف هذه المهمة.
بالنتيجة تواجه المشاورات ساعات صعبة وحاسمة. يوم السبت المقبل، الأرجح سيحمل أديب إلى قصر بعبدا شبه مسودة حكومية قابلة للتنقيح عند اللمسات الأخيرة ولو أنّ ما يتسرب من رئاسة الجمهورية يشي بكثير من النوايا التسهيلية. ولهذا، يجزم أكثر من معني بملف التأليف بأنّ الحكومة ستولد في وقت قريب بعد تدوير الزوايا. إنه الخيار الوحيد المتاح أمام اللبنانيين.