Site icon IMLebanon

رئيس المجلس ينتظر مَن ليس يُنتَظر

 

 

تدور البلاد في حلقة مفرغة. لا أحد من الافرقاء خارجها. المشتغلون في تأليف الحكومة، كما المتفرجون عليه، والهامشيون. جميعهم داخلها محاصرون، مذعورون، ضائعون، من غير ان يملك اي منهم مفتاح كسر دورانها والخروج منها، والنجاة بنفسه على الاقل

 

الجميع ينتظر الجميع: الرئيس نبيه برّي ينتظر الرئيس سعد الحريري الذي ينتظر بدوره تراجع الرئيس ميشال عون الذي ينتظر عودة الرئيس المكلف الذي ينتظر الرياض التي لا تنتظر الذين ينتظرونها كباريس. حزب الله ينتظر ما يجري من وراء الحدود لا في الداخل، شأن وليد جنبلاط الذي ينتظر ان يفيق من هذا الكابوس.

 

في زيارتها الاخيرة رئيس البرلمان (26 أيار)، قالت له السفيرة الاميركية دوروثي شيا عبارة غير مألوفة: تأخير تأليف الحكومة يذهل عقولنا، ولا يمكننا تفسيره.

السفيرة الأميركية لبرّي: مشكلة تأليف الحكومة داخلية وليست خارجية (هيثم الموسوي)

 

اضافت انها تلاقيه في وجهة نظره، ان المشكلة داخلية وليست خارجية، لبنانية – لبنانية مئة في المئة، مع وقوفها الى جانب مساعيه.

ما لا يمكن تفسيره في هذا اللغز العصيّ على الفهم، ان الخلاف بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف بات يشكل حائطاً عالياً من الكره والبغض المتبادل، الشخصي، ما بينهما ضاعفت رسالة عون ثم رد الحريري عليه في مجلس النواب في تفاقمه. لم يعد احد قادراً على ايجاد حل لتسمية الوزيرين المسيحيين الاثنين الاخيرين، بعدما ساد اعتقاد بأن تسميتهما هي العقبة الاخيرة. مع ذلك لا يلتقي الرجلان، ولا يجد برّي طريقة للتوسط بينهما على اتفاق عليها.

[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]

كل ما هو معروف الآن في المأزق، ان عون لا يريد بأي ثمن الحريري الى جانبه في ما تبقى من ولايته، مقدار ما لا يريد الرئيس المكلف من تكليفه سوى وضع هذا الامتياز في جيبه، من جراء عجزه عن تأليف حكومة ترضى عنها الرياض وتفتح له ابواب الدعم المالي من دول الخليج، ولا تغضب في الوقت نفسه حزب الله وتضعه قبالته وتجرده من الغطاء الشيعي، آخر المظلات التي يتعلق الحريري بحبالها. اهون الشرّين ان لا يعوّل على اي منهما دون الآخر، واكتفاؤه بالهروب من المشهد اللبناني برمته، وادارة الظهر له، ما دامت الورقة الثمينة في جيبه.

ليس ذلك وحده الاسوأ في المشكلة. ما ان انتهت جلسة مجلس النواب، السبت المنصرم (22 ايار) في الاونيسكو، حتى غادر الحريري الى ابوظبي. هناك انقطع اثره ولم يعد في الامكان اقتفاؤه. لا يُعلم إن كان يعقد اجتماعاً مع احد، او يتحرك من اجل البلاد كما يُسوّق المحيطون به، ولا يُعرف متى يعود، وماذا يحمل ولا يحمل. في كل يوم ينتظر برّي عودته في ضوء ما يُوعَد به. مع ذلك لم يصل بعد الى المحطة الاخيرة في علاقته معه، وهي ان الرئيس المكلف يخدعه. ليس برّي في احسن الاحوال ممّن ينامون على خدعة.

العصيّ على الفهم ايضاً ما حدث على هامش جلسة الاونيسكو السبت. بارفضاضها، اجتمع برّي والنائب جبران باسيل ربع ساعة وقوفاً، ابصرهما خلالها الحريري، فسارع الى الخروج من القاعة الى المرأب المغلق للمبنى المقصور على سيارتي رئيس المجلس والرئيس المكلف. في المرأب انتظر مع مرافقيه وشرطة مجلس النواب ربع ساعة، قرب سيارته، ينتظر خروج برّي كي يطّلع منه على ما دار بينه وبين باسيل، الى ان فقد الامل وهو ينتظر خروج رئيس المجلس، فركب سيارته وسافر للتو.

ليس في المعلومات المتصلة بجهود برّي ان الفرصة فاتته. لا يزال، بحسب المطلعين، على موقفه، يعتقد بأن البلاد امام الفرصة الاخيرة فعلاً، وهي الاسبوعان المقبلان فقط. بعد ذلك يخرج التسيّب والفوضى من ايدي الجميع. لذا يُسمع برّي يقول ان لا بديل من تأليف حكومة. ما يقوله لا تفسّره سوى عبارة ان العروس لا تحضر إن لم يحضر العريس الضائع الاثر. الذي يريد ولا يريد.

ليس سرّاً تدليع رئيس المجلس الرئيس المكلف ما دام – كحزب الله – يُعوّل على وجوده على رأس الحكومة بغية ضمان الاستقرار الداخلي بشقيه، السنّي – الشيعي والوطني العام.

دلّعه اولاً عندما استجاب لإصراره على تلفزة جلسة السبت الفائت، ما اتاح له على نحو غير مسبوق، من منبر المجلس بالذات لا عبر وسائل الاعلام، شن هجوم عنيف على رئيس الجمهورية اقرب الى مضبطة اتهام، الى حد اتهامه بمخالفة الدستور. سابقة لا نظير لها منذ اتفاق الطائف على الاقل.

دلّعه ثانية عندما لم يطلب رئيس المجلس شطب العبارة تلك من محضر الجلسة، على جاري ما اعتاده في حالات اقل اهمية، خصوصاً وان احكام النظام الداخلي ترعى مقام رئيس الدولة وتبعده عن اي اتهامات او التعرض له او اهانته، ما لم يكن ثمة اتهام ترعاه اصول دستورية قاسية ونصاب موصوف.

ربما فات المحيطين بالحريري تذكيره بما حدث لوالده، يوم استخدم عبارة مماثلة قال فيها ان رئيس الجمهورية يخالف الدستور، وبالكاد انقضت ثمان واربعين ساعة على اداء الرئيس اميل لحود اليمين الدستورية. في اليوم الثاني للاستشارات النيابية الملزمة حينذاك، الجمعة 27 تشرين الثاني 1998، لم تعجب الرئيس رفيق الحريري نتائجها (62 نائباً سمّوه)، والتفويض الكبير الذي اعطاه النواب الى الرئيس المنتخب لتوّه (31 نائباً). أبدى انزعاجه، ورغب في رفض تكليفه دونما اصداره بياناً رسمياً بذلك. استمهله الرئيس يومين، الى مطلع الاسبوع، فيلتقيان وتكون خواطر الحريري الأب هدأت بعد تجيير لحود الاصوات له. بمرور يومين، كشف الحريري الاب لوسائل اعلام ومحطات تلفزة اجنبية، مساء السبت 29 تشرين الثاني، انه اعتذر عن عدم قبوله ترؤس الحكومة من جراء ما عدّه مخالفة دستورية ارتكبها رئيس الجمهورية. صباح الإثنين 30 تشرين الثاني، في طريقه الى قصر بعبدا، سمع الحريري في سيارته من الاذاعة بيان رئاسة الجمهورية يعلن قبول لحود اعتذاره عن عدم تأليف الحكومة الجديدة.

دلّعه ثالثة في الموقف الذي اتخذه البرلمان في جلسة السبت، بناءً على اقتراح برّي وإن بإجماع الهيئة العامة، لم يساوِ في تعاملها مع وجهتي نظر الرئيسين، صاحب الرسالة وصاحب الرد عليها. لم تتبنَّ ما قاله عون فيها عن «عجز» الحريري، ولم توجّه في المقابل الى الرئيس المكلف اي لوم حيال تأخره في تأليف الحكومة والاتفاق مع رئيس الجمهورية، وخصوصاً أن الموقف المصوَّت عليه ابقى المشكلة تراوح مكانها، على نحو ما هو حاصل منذ سبعة اشهر، وهو ان التأليف يُبنى على اتفاقهما. بعد انقضاء اسبوع على الجلسة تلك وتوصية المجلس، ساءت حال التأليف اكثر من ذي قبل: لا عروس ولا عريس.

الى ان يعود من ابو ظبي، ليس ثمة ما يبعث على الاعتقاد بأن تأليف الحكومة وشيك. منذ السبت الفائت، يراهن الحريري والمحيطون به على مستجد وحيد لا علاقة له بالاستحقاق المعلّق، هو احياؤه بنجاح ما يحتاج اليه في كل حين، وسيعوزه اكثر في الاشهر المقبلة على ابواب الانتخابات النيابية: شدّ العصب السنّي، وتصويره اي محاولة لإرغامه على الاعتذار انكساراً جسيماً لطائفته، لا خسارة شخصية ناجمة عن رياضة الاخفاق التي اعتادها.