يثبت الرئيس نبيه بري مرة جديدة انه «صمام امان» وسياسي ماهر في اقتناص الفرص واتخاذ المبادرات في الوقت المناسب. فقد جاءت مبادرته الحوارية ودعوته المفاجئة للقوى والقيادات السياسية بالجلوس مجدداً إلى طاولة الحوار لتخفف من حال القلق والهلع وتفاقم الازمة المنتقلة إلى الشارع، ولتفتح نافذة أمل وتلجم منحى الجنوح باتجاه الفوضى غير الخلاّقة.
نبيه بري بدعوته الملحّة إلى الحوار انما أراد طرح آخر محاولة لـ «لبننة الحل» إذا كان ذلك ممكناً ومتاحاً… وإذا لم يكن الأمر كذلك فان هذه المبادرة تساهم في ضبط إيقاع الازمة والحدّ من خسائرها وفي تمرير المرحلة الاقليمية بأقل اضرار وخسائر ممكنة.
تحمل مبادرة نبيه بري في طياتها المعاني والدلالات السياسية الآتية :
1 – تعكس ادراكاً عميقاً لخطورة الوضع واستشعاراً لعواصف وامطار موحلة قادمة بعدما بدأت الغيوم السوداء تتجمع وتتكدّس في الفضاء اللبناني. وإزاء هذا الوضع الذي بات يهدد الاستقرار العام وبخروج الأمور والاحداث عن السيطرة كان لا بد من مبادرة انقاذية عاجلة. من هنا كان بري المبادر الاول كونه هو المؤهل لاخذ زمام المبادرة لأنه موضع تقدير وثقة واحترام من اغلبية الافرقاء وعنده تتقاطع كل الخطوط والخيوط …
2 – ان المبادرة تنقل الازمة من الشارع إلى المؤسسات ومن مسار الفوضى إلى مسار الحوار بعدما بدأت التحركات الاحتجاجية تخرج عن اطرها السلمية وضوابطها وتتعرض لاختراقات متزايدة من جهات تحاول الدخول على الخط للاستغلال والتوظيف السياسي أو لتوتير الاوضاع والاجواء الأمنية.
3 – الرئيس بري عبر مبادرته يعيد طاولة الحوار مجدداً من قصر بعبدا إلى المجلس النيابي وإلى المكان الذي انطلقت منه عام 2006 إثر نشوب أزمة سياسية – حكومية شبيهة بالتي نعيشها اليوم. ولكن لم يكن أمام رئيس المجلس إلا هذا التدبير والقرار بحيث ان الوضع لا يحتمل انتظاراً وتجميداً إلى حين انتخاب رئيس للجمهورية وفتح ابواب قصر بعبدا من جديد خصوصاً ان كل المؤشرات تدل إلى ان لا امكانية لانتخاب رئيس في المدى المنظور حتى لا نقول وغير المنظور ايضاً وان الاسباب التي حالت دون انتخاب رئيس للجمهورية منذ عام ونيّف ما تزال قائمة لا بل ازدادت رسوخاً ووضوحاً وتعقيداً.
كما ان برنامج الحوار تضمّن ثلاثة بنود تُعدّ بالنسبة للمسيحيين اساسية وحيوية ولطالما شكلت مطالب ملحّة بالنسبة إليهم خصوصاً في الأشهر الاخيرة التي تلت شغور مركز الرئاسة وتفاقم الازمة.
وهذه البنود هي: قانون الانتخابات واستعادة الجنسية واللامركزية الإدارية. ولا يسعنا هنا إلا تقدير وتثمين موقف الرئيس بري وأخذه في الاعتبار مطالب وهواجس الفريق المسيحي، وما اظهره من رغبة أكيدة في ان يكون المسيحيّون شركاء حقيقيين في الحوار وفي صناعة القرار الوطني وفي مشروع الدولة وعملية بنائها…
عندما يدعو الرئيس نبيه بري الى استئناف الحوار الوطني الجامع، هذا يعني اقراراً بواقع ان الحوارات الثنائية، لم تعد كافية لانتاج حلول وتسويات. ولقد أيقن بري بعد نحو سنة على حوار عين التينة بين «المستقبل وحزب الله» ان هذا الحوار سيكون مبتوراً إذا لم يكن المكوّن المسيحي جزءاً منه وشريكاً فيه.
ومن ناحية ثانية فانه مما لا شك فيه ان الحوار يساهم في تخفيف النقمة الشعبية العارمة المبنية على أسباب ومطالب محقّة وفي ضبط انفعالات الشارع وعواطفه وفي «عقلنة» طموحاته وجعلها اكثر واقعية وقابلة للتحقيق، لأن ما يطرح من شعارات كبيرة تصل إلى حد اسقاط الحكومة واسقاط النظام وإطاحة كل الطبقة السياسية الحاكمة، ستظل شعارات ولن تشق طريقها إلى التنفيذ وسط هذه التداخلات والتعقيدات الطائفية السياسية الداخلية والاقليمية. وعدم الوصول إلى نتيجة سيكون سبباً في تعميق حال الاحباط وتعميمها ودفع الشباب إلى موجة هجرة جديدة…
اذن حسناً فعل الرئيس بري عندما دعا إلى الحوار وفرضه كأمر واقع محدداً مكانه وزمانه وجدول اعماله، خصوصاً ان المرحلة لا تحتمل الترف السياسي والمناورات والشروط المسبقة . وأفضل ما فعله رئيس المجلس انه حصر جدول اعمال الحوار وحدده في سبعة بنود ومسائل تتصل بالازمة الراهنة حتى لا يغرق الحوار في نقاشات وجلسات عقيمة وحتى لا يدور في حلقة مفرغة عندما يبتعد عن الواقع ويتناول مسائل ذات أبعاد اقليمية أكبر من اللبنانيين وحوارهم.
ان انتخاب رئيس للجمهورية هو أولى الاولويات ومفتاح الانفراج واستعادة الوضع الطبيعي. وإذا لم يصر إلى تفاهم على الاستحقاق الرئاسي الذي تدخل فيه عوامل وامتدادات اقليمية، فان الحوار لا يجب ولا يجوز ان يتوقف هنا وانما من الضروري ان يتواصل لايجاد حلول ومخارج للازمات المتفرعة عن الفراغ الرئاسي والمتمثلة بتعطيل واقفال المجلس النيابي وشلّ عمل الحكومة.
اذا كان اللبنانيون غير قادرين على الاتفاق على رئيس جديد لانه ليس من اختصاصهم بسبب ارتباطاتهم السياسية بمحاور خارجية، فليتفقوا على استمرار العمل والانتاج في المؤسسات الدستورية وفي إدارات الدولة وليكن تحييد للمسائل والقضايا الحياتية وكل ما له علاقة بأمور الناس وشؤون الدولة عن الصراعات والخلافات السياسية الكبيرة.
في الختام تبقى الملاحظة الاساسية والأهم هي في تلقف كل الافرقاء السياسيين دعوة بري إلى الحوار والتجاوب الضروري والصريح والتفاعل الايجابي معها. ومن الممكن ان هذا التجاوب ينمّ عن استشعار بخطورة الوضع.
ولكن من الأكيد انه يعكس اضطراباً وقلقاً عند أرباب الطبقة السياسية الذين يتساوون في المأزق ويحتاجون إلى مخرج و«خشبة خلاص». فما تواجهه الطبقة السياسية هذه الايام لم يسبق ان واجهته في حياتها، ولم يسبق لها ان تعرضت لحملات وانتقادات واهانات مثلما تتعرض له في التحركات الشعبية التي عرّت الطبقة السياسية وحشرتها في زاوية الاتهام.
ولعل أفضل وأهم ما كشفه الحراك الشعبيّ هو حجم الهوة الفاصلة بين الناس والسياسيين ومقدار أزمة الثقة المستحكمة بالطبقة السياسية والرغبة الشعبية الجامحة في محاسبتها وتغييرها… فاللمرة الاولى يفضح الناس زعماءهم ومناورات واكاذيب بعض هذه الطبقة السياسية الحاكمة وفسادها المزمن وللمرة الاولى يكشّر الناس عن انيابهم ويعلنون إرادة سياسية في المحاسبة والتغيير. وهذه الارادة لا تترجم واقعاً إلا عن طريق قانون انتخابات جديد يؤمن التمثيل الشعبي الصحيح والتوازن الوطني بشقيه السياسي والطائفي ويؤمن المناصفة الفعلية أو افضل مناصفة ممكنة …
فاذا كانت الانتخابات الرئاسية مفتاح الانفراج والحلحلة… فان الانتخابات النيابية على اساس قانون جديد هي المدخل إلى التغيير والحل.