IMLebanon

نبيه بري… إمامة من دون عمامة

 

يروى أن مسؤولاً أميركياً رفيعاً زار لبنان في مهمة رسمية والتقى عدداً من المسؤولين الرسميين وغير الرسميين كان حريصاً خلال لقاء أحد الأقطاب على أن يسأل عن صحة رئيس مجلس النواب نبيه بري (81 عاماً) أكثر مما سأل عن صحة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون (84 عاماً). فصحة الرئيسين من صحة لبنان وبهما ترتبط استحقاقات دستورية وسياسية.

لقد أثبت الرئيس بري حضوراً كاملاً ولياقة سياسية دائمة في إدارة جلسات مناقشة الموازنة في مجلس النواب على مدى ثلاثة أيام. لا تفوته النكتة ولا يتخلى عن سرعة البديهة ولا عن الحزم في التدخل في الوقت المناسب لتقويم النقاش وإعادته إلى إطار الديموقراطية. يستخدم المطرقة حيث يجب ويمازح حين يرى ذلك مكملاً لجو الحوار. يهدف الرئيس بري بهذه الطريقة الى أن يكون عادلاً بين الجميع ومحبوباً من الجميع ولا شك في أنه يصيب دائماً هذا الهدف وإن كان كثيرون يتحدثون عن أرانبه التي يخرجها من أكمامه بحثاً عن مخارج لعقد ليست لها دائماً مخارج.

شيخ صلح

بعد أزمة حادث البساتين وقبرشمون في منطقة عاليه لم يتخلّ الرئيس بري عن لعب هذا الدور محاولاً التوصل إلى معابر تخرج الجميع من الأزمة من دون أن يحسب عليه أنه يقف إلى جانب هذا الطرف أو ذاك وإن كان البعض حسب أنه أقرب إلى رئيس الحزب “التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط أكثر من قربه إلى رئيس الحزب “الديموقراطي اللبناني” النائب طلال أرسلان. ومن هنا بدأ الحديث عن سر تموضعه السياسي خصوصاً في ما يتعلق بإحالة القضية إلى المجلس العدلي وكيف سيصوت وزراء حركة “أمل” الثلاثة؟. هذا الكلام كان يقال بينما كان بري يحاول أن يلعب دور الوسيط الباحث عن حل للمشكل وإن كان جمع في مقره في عين التينة رئيس الحكومة سعد الحريري والوزير السابق وليد جنبلاط. ربما هذا هو سر نبيه بري وحده.

 

مسيرة أمل

كان المحامي نبيه بري في التاسعة والثلاثين من عمره عندما تسلم رئاسة حركة “أمل” بعد أقل من عامين على خطف الإمام موسى الصدر وإخفائه في ليبيا في أيلول 1978. ومنذ ذلك التاريخ بدا أن الرئيس بري بات يلعب دور الإمام غير المعمم في الطائفة الشيعية وفي قيادة حركة المحرومين التي أسسها الإمام الصدر. لم يكن بري يعتبر صغيراً في العمر في ذلك التاريخ بعد تبوّئه هذا المنصب القيادي. فوليد جنبلاط ترأس الحزب “التقدمي الإشتراكي” بعد اغتيال والده وكان في الثامنة والعشرين من عمره. وسمير جعجع قاد “القوات اللبنانية” وهو في الثالثة والثلاثين من عمره. وإيلي حبيقة كان في التاسعة والعشرين عندما كان يخوض مغامرة الإتفاق الثلاثي كرئيس للهيئة التنفيذية في “القوات اللبنانية” في العام 1985 والسيد حسن نصرالله أصبح أميناً عاماً لـ “حزب الله” وهو في الثالثة والثلاثين وبشير الجميل كان رئيساً للجمهورية وهو في الثالثة والثلاثين. كانت القيادات الشابة هي سمة تلك المرحلة التي بدأت في العام 1975 وقد ارتقت من خنادق القتال إلى خنادق السياسة ولكن لكل منها كان هناك قدر مختلف عن الآخر.

خطيباً من وراء الزجاج العازل

الإمام موسى الصدر (1928) كان في بداية الثلاثينات من عمره عندما اتخذ قرار العودة من العراق إلى لبنان ليتجرأ على اختبار تجربة المرجعية الشيعية الأولى في لبنان والعالم الإسلامي. يكبر نبيه بري بعشرة أعوام فقط ولم تكن مسألة بسيطة أن يبدأ هذه المهمة في ظل السبات الذي كانت تعيشه الطائفة الشيعية التي لم تكن مستقلة دينياً بعد وفي ظل انجذاب الشيعة عامة إلى قيادات وزعامات محلية ومناطقية وعائلية وإلى أحزاب يسارية وفصائل فلسطينية. وكان من الجرأة أن يمشي نبيه بري وغيره في مسيرة الإمام الصدر التي كانت في بدايتها مغامرة معبدة بالألغام والتحديات الكبيرة والكثيرة.

 

لم يظهر نبيه بري كقائد عسكري أو كمقاتل على الأرض إلى جانب الصدر مع تأسيس حركة “أفواج المقاومة اللبنانية” المختصرة حركة “أمل” ولكنه كان من المقربين إليه بحيث أنه كان يكلفه القيام بمهمات كثيرة. وبحكم هذه الصلة كان بري مدركاً عمق التحول الكبير الحاصل في إيران الذي أوصل الإمام آية الله علي الخميني إلى الحكم مؤسساً لقيام الجمهورية الإسلامية في العام نفسه الذي اختطف فيه نظام العقيد معمر القذافي الإمام الصدر في ليبيا. فقد كانت قيادات كثيرة من الثورة الإيرانية في لبنان وتتدرب في مخيماته وكان العديد من قادة حركة “أمل” من الذين رافقوه في الطائرة التي أعادته من باريس إلى طهران، وأول وزير دفاع إيراني بعد الثورة كان مصطفى شمران أول مسؤول تنظيمي في حركة “أمل”.

في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر

في أيلول 1978 لم يكن غياب الصدر مجرد حادث خطف. بعد خمسة أشهر على أول اجتياح إسرائيلي كبير للجنوب في 14 آذار 1978 كان قرار مجلس الأمن 425 الذي طالب بسحب الجيش الإسرائيلي وبنشر الجيش اللبناني، وكان الصراع حول من يتولى مسؤولية الأمن في الجنوب. ذهب الصدر في جولة عربية للتأكيد على نشر الجيش ولكن الصراع كان يفترض بقاء القرار العسكري في الجنوب بيد منظمة التحرير الفلسطينية. الخيار الذي حمله الصدر ربما كان وراء قرار القذافي بإخفائه.

 

في المرحلة الأولى التي كانت فيها الحركة في مرحلة من الضياع أصبح النائب حسين الحسيني رئيساً لها. في تلك المرحلة أيضاً كانت الثورة الإسلامية في إيران تبحث عن “ممثلين” لها في لبنان. زار الحسيني العاصمة الإيرانية من دون أن يتم الإتفاق على أن تلعب حركة “أمل” هذا الدور. بعد عام واحد أصبح نبيه بري رئيساً للحركة بعد استقالة الحسيني ومنذ ذلك التاريخ لا يزال قائدها، وربما منذ ذلك التاريخ أيضاً قرر النظام الجديد في إيران أن يكون له تنظيمه الخاص في لبنان بحيث يحمل الأبعاد الدينية والسياسية والثوروية الشيعية، خصوصاً بعدما كان الشيخ محمد مهدي شمس الدين قد أصبح نائباً لرئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى أي الإمام المغيّب الصدر.

 

لم يعد وحيداً

في العام 1982 دقت الساعة لهذا التغيير الكبير مع الإجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران. بينما كان رئيس “أمل” بري يشارك في اجتماعات هيئة الإنقاذ القليلة التي شكلها رئيس الجمهورية الياس سركيس إلى جانب وليد جنبلاط وبشير الجميل وآخرين، كانت طلائع الحرس الثوري الإيراني بدأت تصل إلى البقاع اللبناني وقد بدأ، حينها، التحضير للإنشقاقات عن حركة “أمل” حيث كانت بداياتها مع ما سمي “حركة أمل الإسلامية”.

 

على مدى عشرة أعوام بين 1982 و1992 خاض نبيه بري مواجهات كثيرة سياسية وعسكرية وكانت حركة “أمل” بكامل جاهزيتها قبل أن يبدأ “حزب الله” بقضم دورها.

 

خاض بري معركة إسقاط اتفاق 17 أيار إلى جانب وليد جنبلاط وقاد حركة 6 شباط 1984 التي أخرجت بيروت والضاحية من كنف شرعية الرئيس أمين الجميل.

 

كما خاض معركة تصفية تنظيم “المرابطون” بقيادة ابراهيم قليلات في أيار 1985 وبعدها مباشرة خاض معركة العلمين ضد الحزب “التقدمي الإشتراكي” وهي المعركة التي استدعت عودة “جهاز الأمن والإستطلاع السوري” إلى الضاحية وبيروت.

 

خاض حرب المخيمات التي امتدت على مدى أعوام من مخيمات بيروت والضاحية إلى مخيمات الجنوب خصوصاً في عين الحلوة والرشيدية وقد تكبدت فيها الحركة خسائر كبيرة وكانت بمثابة حرب استنزاف لها، بينما كان “حزب الله” يؤسس لبناء قوته الذاتية بعدما أعلن عن نفسه في 16 شباط 1985 ووقف يتفرج على الحركة وهي تقاتل، وعمل على أن يشكل قوة فصل بينها وبين المسلحين الفلسطينيين الذين استطاعوا خلال المعارك أن يخرجوا من مخيم عين الحلوة نحو مغدوشة.

 

خاض أيضاً الحرب الثانية ضد تحالف “الإشتراكي” و”الحزب الشيوعي” في شباط 1987 وهي الحرب التي استدعت “الإستنجاد” بالقوات السورية، وكانت وراء قرار عودتها إلى بيروت قبل عام ونصف العام من استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية في أيلول 1988 وقد اعتبر كثيرون أنها كانت للإمساك بهذا الإستحقاق.

 

خاض بري أيضاً حرباً شرسة ضد “حزب الله”. بدأت الجولة الأولى في الجنوب وكانت في مصلحته بينما استطاع “حزب الله” في الجولة الثانية أن يستعيد الجنوب انطلاقاً من إقليم التفاح وأن يسيطر على كامل الضاحية الجنوبية تقريباً لولا تدخل العميد السوري غازي كنعان.

 

هذه المعارك مع “حزب الله” انتهت باتفاق سمي اتفاق دمشق في العام 1989 وهو الإتفاق الذي حدد مسار العلاقة بين الطرفين برعاية سورية وإيرانية، وأعطى “حزب الله” الخط العسكري وطريق احتكار السلاح والمقاومة وكرس بري متصدراً للدور السياسي الرسمي على وجه الخصوص.

 

حصلت كل هذه المواجهات ونبيه بري كان أصبح وزيراً للعدل والموارد المائية والكهربائية في حكومة الرئيس رشيد كرامي التي تشكلت في نيسان 1984، وكانت نتيجة اتجاه الرئيس أمين الجميل نحو دمشق مقدماً الكثير من التنازلات بعد سلسلة المعارك وبعد مؤتمري جنيف ولوزان، وكانت تلك الحكومة أول حكومة “وحدة وطنية” بحيث ضمت إلى جانب بري وليد جنبلاط وكميل شمعون وبيار الجميل وآخرين ومنذ ذلك التاريخ ربما دخلت هذه التسمية قاموس التسميات الحكومية وإن كانت فاقدة للمعنى.

دولة الرئيس

ربيع العام 1992 رسمت طريق جديدة للوزير نبيه بري. بعد تلك الإنتخابات النيابية في ذلك الربيع أصبح حتماً رئيساً لمجلس النواب ولما يزل، بينما أصبح السيد حسن نصرالله أميناً عاماً لـ “حزب الله” ولما يزل وهو الذي خرج من رحم حركة أمل وكان مسؤولا تنظيميا فيها قبل أن ينضم إلى الحزب كغيره من قيادات كثيرة كانت في الحركة، وهذا ما حمل بري مثلاً خلال حرب إقليم التفاح على القول: “أنا بحركة أمل. وحزب الله بحركة أمل. خرجتم من أرحامنا. أريد حياته ويريد قتلي. المؤامرة بدأت من هنا من الجنوب…ما يحصل هو احتلال للجنوب ولا فرق بين احتلال واحتلال…عليكم أنتم كما عاملتم أي احتلال أن تعاملوا هذا الإحتلال”. ولكن في واقع الأمر ان هذا الكلام كان نتيجة ساعة الحرب ونتيجة المعركة وأنه بعد اتفاق دمشق بدأ الحديث عن الثنائية الشيعية بحيث أنها بقيت صامدة على رغم تعرضها لاهتزازات كثيرة. ومن هنا كان الإتفاق الدائم بين “الحركة” و”الحزب” على تقاسم المقاعد النيابية والوزارية ولكن الإنتخابات البلدية لم تخلُ أحيانا من منافسة شعر في إحداها بري أنه مستهدف فرفع الصوت فهدأت المحاولة ولكنها لم تكن الأخيرة.

بعد حرب تموز 2006 لعب بري دور ولي المفاوضات حتى تمّ التوصل إلى وقف النار والقرار 1701. وإذا كان “حزب الله” اتهم قوى 14 آذار بالتآمر والخيانة فإنه لم يقترب أبداً نحو الرئيس بري. ولكن في العام 2011 مع تسريب ما سمي “وثائق ويكيلكس” حصل بري على نصيب وافر من التسريبات التي شملته شخصياً إلى جانب مستشاره علي حمدان ووزيره محمد جواد خليفة وآخرين. ولكنه عندما رفع صوت الإحتجاج هدأت المحاولة وإن كانت تكررت بأشكال أخرى.

انخرط “حزب الله” في الحرب السورية ولكن الرئيس بري بقي خارجها. منذ مدة طويلة لم يزر دمشق ولا التقى رئيس نظامها بشار الأسد. أكثر من ذلك ثمة من تحدث عن مآخذ من النظام ضد الرئيس بري وعن وساطات يقوم بها البعض لتأمين زيارة له إلى الشام ولكن هذه الزيارة لم تحصل. وكأن الرئيس بري بات موضع شك لدى هذا النظام.

مع استحقاق انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية لم يتخلّ بري عن معارضة هذا الخيار ولكنه من موقعه كرئيس للمجلس أدار جلسة الإنتخاب بدراية وعناية واحتفظ بمعارضته للعهد من دون أن يتخلى عما يفرضه عليه موقعه النيابي. وذروة الإشكال حصلت عندما تم تسريب كلام رئيس “التيار الوطني الحر” النائب والوزير جبران باسيل عن بلطجية الرئيس بري وتكسير الرؤوس.

 

بعد تلك المعركة الرئاسية بدأت التساؤلات حول المكان الذي يقف فيه الرئيس بري. مع “حزب الله” وقوى 8 آذار أم في خط الوسط؟ مع وليد جنبلاط؟ أم مع طلال أرسلان؟ مع عون أم مع “القوات اللبنانية”؟ خصوصا أنه كان أعلن عن سقوط خطي 8 و14 آذار. بعد حادث قبرشمون تجددت الإشكالية. مع من سيصوت وزراء بري في حال تم طرح موضوع إحالة الجريمة إلى المجلس العدلي في مجلس الوزراء؟ لماذا جمع في عين التينة الرئيس سعد الحريري والوزير السابق وليد جنبلاط بعد حملة التراشق بين الطرفين عبر وسائل التواصل الإجتماعي والتصريحات الإعلامية وبعد حادث قبرشمون؟ هل يريد أن يكون من ضمن تحالف جديد يضمه إلى جنبلاط والحريري والقوات وسليمان فرنجية؟ هل يمكنه أن يقرر مثل هذا الأمر بمعزل عن “حزب الله” أم يضطر في النهاية إلى السير بخيار الحزب مكرهاً حتى لا يسقط تفاهمهما؟

نبيه بري:27 سنة رئيساً لمجلس النواب

ربما يدرك الرئيس بري طبعاً دقة الموقف ودقة الظرف. وربما لذلك اختار أن يلعب دور الوسيط حتى لا تصل القضية إلى التصويت. ومن هنا اقتراحاته الكثيرة لحل القضية بالتفاهم مع المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم.

 

بعد أربعين عاماً على رئاسته حركة أمل وسبعة وعشرين عاماً على رئاسته مجلس النواب ومع اجتيازه عتبة الثمانين يصبح السؤال عن صحته أمراً مقبولاً ومسؤولاً. معه، هناك نكهة خاصة للحياة السياسية والبرلمانية. وحده ربما مؤهل من موقعه للعب هذا الدور. بعد غياب الإمام الصدر بقي بمثابة الإمام غير المعمم بغضّ النظر عن المآل الذي صار عليه خط الإمام في ظل طغيان خط ولاية الفقيه الذي يمثله “حزب الله” بقيادة أمينه العام السيد حسن نصرالله. وربما السؤال الذي لا إجابة له بعد هو ماذا بعد نبيه بري؟ وإن كان البحث في هذا الإحتمال لا يزال بعيداً.