يخضع الملف الرئاسي لاختبار جديد، يشجّعه الأميركيّون، ويتصدّره الفرنسيّون ومعهم السعوديّون، ويماشيهم بطبيعة الحال المصريّون والقطريّون. والإشارات العلنية وغير العلنية تتوالى من عواصمهم بأنّ ظروف لبنان والمنطقة باتت تحتّم حسم هذا الملف وتوافق اللبنانيين على انتخاب رئيس للجمهورية. وخطة التحرّك في هذا الاتجاه يُفترض أن تتحدّد في اجتماع سفراء اللجنة الخماسيّة في بيروت المقرّر انعقاده يوم السبت المقبل، إنْ لم يطرأ تطور ما على جدول المواعيد.
ولأنّ هذا التوافق هو الهدف المنشود، وفّر الرئيس نبيه برّي للحراك الخماسي المتجدد فرصة الاستعانة بصديق، وطرح مبادرة محدثة ركيزتها الأساس بناء الاستحقاق الرئاسي على قاعدة تشاركية توافقية. (تشاور لأيّام معدودة تليها جلسة لمجلس النوّاب بنصاب دستوري أي 86 نائباً انعقاداً وانتخاباً، ودورات متتالية حتى انتخاب رئيس الجمهورية).
لا علم ولا خبر رسمياً عن اجتماع الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان والمستشار في الديوان الملكي نزار العلولا في حضور سفير المملكة وليد البخاري. وهذا الشحّ في المعلومات الدقيقة، حرّك طباخي السيناريوهات الوهميّة الى إحاطة هذا الاجتماع بروايات تشاؤمية تنسف الحراك الخماسي قبل انطلاقه. على أنّ تلك الروايات تنسفها أجواء اللجنة الخماسية التي تشي بأنّ لودريان والعلولا وضعا الأسس لتحرّك رئاسي أكثر زخماً، لتمكين اللبنانيين من تجاوز انقساماتهم، والتوافق على خريطة طريق لإنجاز الاستحقاق الرئاسي. والسفير المصري في بيروت علاء موسى لخّص الهدف من الحراك الخماسي المتجدّد بمحاولة البحث عن مشتركات بين الأطراف لتحقيق تقدّم في ملف الرئاسة. تُضاف الى ذلك، تأكيدات أميركية متتالية بأنّ لا أحد ينوب عن اللبنانيين في التوصل الى حل والتفاهم في ما بينهم.
إذاً، التوافق على رئيس هو الهدف الرئيسي للحراك الخماسي، والحثّ الخارجي واضح في هذا الاتجاه، وهذا الهدف يلاقي مبادرة بري. وعلى ما يقول متحمسون للحسم السريع للملف الرئاسي “لا فرق إنْ شكّل الحراك الخماسي رافداً لمبادرة بري، أو شكّلت مبادرة بري رافداً للحراك الخماسي، فالمهمّ هو أن نأكل العنب”.
لكن، ما ينبغي لحظه في هذا المجال، هو أنّها ليست المرّة الأولى التي يلاقي فيها الحراك الخماسي مبادرة رئيس المجلس، فقد سبق للجنة الخماسية أن اعتبرت في آخر حراك لها قبل دخولها في استراحتها، بداية الصيف، أنّ مبادرة بري (تشاور لفترة لا تتعدّى 7 أيام يُصار خلالها التوافق على مرشح أو مجموعة مرشّحين، ويلي ذلك انعقاد مجلس النواب بجلسات متتالية ودورات متتالية حتى انتخاب رئيس الجمهورية)، بأنّها تشكّل أقرب الطرق الى انتخاب رئيس للجمهورية.
وإذا كان التوافق الذي ترمي إليه مبادرة بري غير مشروط أو مقرون بفيتوات على أيّ من المرشحين، بل جوهره التشاور والتوافق على مرشح أو مرشحين، (من دون أن يحيد عن التزامه بدعم ترشيح الوزير سليمان فرنجية)، ولتجرِ الانتخابات بناءً على ذلك، وليفز من ينال أكثرية الفوز برئاسة الجمهورية. وفي يقين بري أنّ التزام الأطراف بإتمام نصاب جلسة الانتخاب وعدم فرطه، يمكّن من انتخاب رئيس في غضون أيّام قليلة، إن لم يكن في جلسة واحدة. إلّا أنّ السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال: أيُّ توافق يرمي إليه الحراك الخماسي المتجدّد؟
من ضواحي “الخماسية” تُبَثّ أجواء سابقة لحراكها المنتظر بعد أيام، تبدو وكأنّها تحاول أن تغازل أطراف الانقسام الرئاسي بسلسلة محفّزات على التفاعل الإيجابي مع مهمّتها المتجددة:
أولاً، بالقول بوجود نقاط التقاء في ما بينهم، (من دون أن تحدّدها)، أكثر من نقاط الاختلاف، وفي الإمكان البناء على نقاط الالتقاء، وصولاً الى إنهاء أزمة الرئاسة في لبنان.
ثانياً، بالتأكيد على أنّ الحراك المتجدّد للجنة الخماسية إشارة بالغة الدلالة في هذه الظروف، بأنّ لبنان ما زال يحتل موقعاً متقدّماً في أولويات واهتمامات الدول الصديقة له، ومن هنا تتشارك في الجهد لإعادة انتظام حياته السياسية والدستورية بدءاً بانتخاب رئيس للجمهورية. وفي ذلك تأكيد متجدّد على أن لا مانع خارجياً على الإطلاق لانتخاب الرئيس. ومعنى ذلك أن التعطيل الرئاسي صُنع في لبنان.
ثالثاً، بالتأكيد على حيادية اللجنة الخماسية، وحصر حراكها ولقاءاتها وحواراتها مع الأطراف في نطاق الحث والمساعدة في تقريب وجهات النظر، دون أن تُمارَس أيّ ضغوط مباشرة أو غير مباشرة على أيّ من الأطراف.
رابعاً، بالتأكيد على أنّ “الخماسية” لا تزكّي مرشحاً معيناً، ولا تعترض على أي مرشح، وتبعاً لهذا الموقف الحاسم لن تدخل في لعبة الأسماء على الإطلاق.
خامساً، بالتأكيد على أنّ الخارج، أيّاً كان هذا الخارج، لا يستطيع أن يُلزم اللبنانيين برئيس للجمهورية، بل أنّ اختيار هذا الرئيس مسؤولية اللبنانيين وحدهم. على أن تُراعى في هذا الاختيار مصلحة لبنان التي يؤمّنها رئيس للجمهورية يتمتّع بمواصفات مطمئنة لكلّ الأطراف، ويمتلك القدرة على أن يجمع اللبنانيين، وفي الوقت ذاته يمتلك الإرادة والعزم على أن يفتح آفاق العلاقات الطيبة والصداقة والتعاون والانفتاح مع كل الدول الصديقة والشقيقة للبنان. وبعض سفراء الخماسيّة قالوا بصورة مباشرة إنّ في لبنان مجموعة كبيرة ممن يتحلّون بالمواصفات يمكن اختيار واحد من بينهم، إلّا أنّ نقطة ضعف ما تبدو أنّها مغازلة، تكمن في موضعين:
الأول، في أنّها لا تغيّر في حقيقة ضعف نقاط الالتقاء بين أطراف الانقسام الرئاسي التي تتحدث عنها، أو بمعنى أدق انعدام تأثيرها على الهاربين من التشاور للتوافق على رئيس، وعدم تمكّنها، برغم كثرتها كما يُقال، من أن تشكّل عاملاً مساعداً في كسر جدار التعطيل وجلب المعطّلين الى بيت الطاعة الرئاسيّة وإجلاسهم على طاولة النقاش.
والموضع الثاني، إنْ كانت تشكّل تمهيداً لتكرار محاولة فاشلة، رعتها الخماسية في حراكها السابق، وحاول جان إيف لودريان تسويقها، تحت عنوان التوافق. إنّما التوافق على ما سُمّي “الخيار الثالث” غير سليمان فرنجية وجهاد أزعور، بذريعة أنّ أياً منهما لم يتمكّن من بلوغ عتبة الفوز برئاسة الجمهورية في جلسة 14 حزيران 2023، ما يعني صرف النظر عنهما. وأما النتيجة، فكانت أن أسقط “الخيار الثالث” تلك المحاولة وغادر لودريان بيروت مثقلاً بالفشل.
منذ ذلك الحين لم يتبدّل شيء سوى سقوط خيار أزعور وخروجه من نادي المرشحين، بعد انفراط التقاطع عليه الذي خرج منه “التيار الوطني الحر”، وكذلك وليد جنبلاط الذي نحى الى تموضع جديد. وأمّا فرنجية فما زال ماضياً في ترشيح نفسه، ويحظى بدعم أطراف وازنة. واللافت في موازاة الحراك الخماسي المنتظر، عودة الحديث مجدّدا عن “الخيار الثالث” قبل انطلاق هذا الحراك، وإن صحّ ذلك، فهذا مؤداه إلى فشل جديد يُضاف الى ما سبقه.