على مرور عقود عمر «إتّفاق الطائف»، بلور شيعة لبنان ثلاثة خطوط حمر يعلنون نفيرَ الدفاع العام في حال اقتربت أيُّ جهة للمَسّ بها: الأول، حفظ المقاومة وسلاحها، والثاني، الوفاء للمطلب المعنوي والأخلاقي بعودة الإمام موسى الصدر وكترجمة سياسية لهذا المطلب تندرج مهمة حفظ الثنائية الشيعية. والخط الأحمر الثالث هو حصرية رئاسة مجلس النواب لنبيه بري الذي أضاف في السنوات الأخيرة مطلباً يحاول أن يجعله «خطاً أحمر» رابعاً للإجماع الشيعي، وهو منح وزارة المال للشيعة، بصفتها تعوّضهم عدم لحظ «إتّفاق الطائف» وجود توقيع لهم في السلطة التنفيذية.
وبهذا المعنى فإنّ تبوُّءَ بري رئاسة مجلس النواب التي هي حصة الشيعة، بحسب العرف المعمول به، بين الرئاسات الثلاث، اصبحت له أيضاً منزلة العرف السياسي داخل الاجتماع السياسي الشيعي، في مقابل أنه أصبح خطاً احمر داخل معادلة التوازنات السياسية اللبنانية الداخلية التي تتحكّم أو تحكم استقرارَ الحدّ الأدنى السياسي في جمهورية «الطائف».
وفي مقابل أنّ كل المعادلات الأخرى طرأ عليها خلال عهود «الطائف» تعديلاً كبيراً، إن لم تكن نسفت كلياً، فإنّ معادلة بري رئيساً للمجلس ظلّت ثابتة. حتى الوصاية السورية على تطبيق «اتفاق الطائف» التي كانت من أسس قيام هذا الاتّفاق إقليمياً ودولياً، سقطت عام 2005 وحلّ مكانها فراغٌ إقليمي لمصلحة وصاية دولية لحفظ استقرار الحدّ الأدنى في جمهورية «الطائف».
الجنبلاطية السياسية التي دلّلتها وصاية دمشق على «إتّفاق الطائف»، وحازت على لقب بيضة قبان توازن حياته السياسية الداخلية بعد خروج السوريين، تغيّرت، وذلك في الشكل عن طريق استبدال الأب بالإبن، وفي الجوهر عن طريق أنها لم تعد بيضة قبان التوزان السياسي الداخلي. حتى قانون غازي كنعان الذي حفظ حصص أحزاب الطوائف الكبرى في جمهورية «الطائف»، تغيّر وحلّ مكانه قانون انتخابي نسبي يرى فيه البعض أنه بداية طيّ صفحة وفتح صفحة جديدة في الحياة السياسية اللبنانية. جعجع الذي سجنه انقلابُ «الطائف» اصبح القوة المارونية الثانية وعون الذي نفاه «الطائف» أصبح فخامة الرئيس.
الحريرية السياسية على الرغم من أنها وُلدت مع «الطائف»، إلّا أنّ دورة دولابه السياسي، طاولتها بإنقلابات دموية وسياسية حادة، تارة خارجية وتارة من داخل بيتها الاقليمي واللبناني. كذلك «حزب الله» تغيّر دوره داخل جمهورية «الطائف» من كائن عسكري مقاوم «لا سياسي» حسب وصفة حافظ الاسد له، الى «مايسترو» سياسي وعسكري داخل معادلة جمهورية «الطائف» وخارج حدودها العربية. وحده «برّي الأوّل» وحتى «برّي السادس»، لم تتغيّر معادلتُه داخل جمهورية «الطائف»، وظلّت ثابتةً سواءٌ في زمن نسختها الأولى السورية أو الراهنة.
من الصعب تعريف دور بري داخل جمهورية «الطائف» بخلاصة واحدة. يقال إنه نقطة ارتكاز ثمينة، في عهد الإحتراب المذهبي الشيعي ـ السنّي في المنطقة، تساعد على جعل معادلة الهدنة المذهبية اقوى من معادلة الفتنة داخل لبنان. ويقال إنّ أهمية دوره تكمن في أنه مهندس استقرار الحدّ الأدنى لـ»النظام السياسي» في لبنان، في ظلّ مرحلة سقوط الأنظمة أو ترنّحها في المنطقة. ويقال عن اهمية دوره أنه بالنسبة الى «محور الممانعة» هو الأقرب ويشكّل «ذخيرة استراتيجية سياسية لبنانية لحزب الله»، وهو بالنسبة الى «محور الاعتدال العربي» يمثل ظهّيراً سياسياً لحماية «الطائف» في مقابل طموحات «فخامة الرئيس الماروني» باستعادة مجد صلاحيات 43 من جهة، ومن جهة ثانية في وجه رغبة دولة «الرئيس الثالث السنّي» بوراثة الرئاسة الاولى بالنسبة الى الأوروبيين.
وفي إطار آخر عن اهمية دوره، يشار الى أنه في مقابل أنّ بري ليس الشيعي العربي مقتدى الصدر الأقرب الى الرياض منه الى ايران، فإنه ليس الشيعي العراقي «المهندس» الاقرب الى ايران منه الى الرياض. وأخيراً، وليس اخراً، أن بري يتقاطع مع السيد حسن نصرالله «حيث يجب أن يكونا لبنانياً» وليس خارج لبنان، وبينهما مشترك إرث موسى الصدر ووصاياه اللبنانية.. وكل هذه أدوارٌ ومعانٍ لبري، في نظر محافل سياسية داخلية وخارجية، يحتاجها لبنان في عهد جمهورية «الطائف»، وهي في المقابل تطيل عمرَه السياسي وتحمي دوره.
وفي بيروت لم ترَ محافل ديبلوماسية في الاوراق البيضاء التي لم تنتخب بري، تصويتاً سياسياً ضده، بمقدار ما عبّرت عن رسائل سياسية ذات صلة بقضايا اخرى. وذلك بالطبع عدا «مزحة» دارين لبكي.
كان لافتاً بالنسبة الى هذه المحافل أنّ العونيين وزّعوا تصويتهم بين صفين، الأول رفع اوراق بيضاء رأى مراقبون أنّ وقع معناها السياسي بدا اشبه بأنها «اعلام بيضاء»، وليست «بيارق» ثأر بمفعول رجعي لعدم تصويت بري لعون في جلسة انتخابه رئيساً للجمهورية، بمعنى أنها لم توحِ بالثأر الذي أراده باسيل. والقسم الثاني كان اقوى بوقعه السياسي، وهو اقترع بـ«نعم» ضمن خطة مرغوب بها لدى عون ـ نصرالله، وتهدف الى تشجيع قيام بري بدور يقوّي فرص نجاح المرحلة المقبلة من عمر العهد.
لم ترَ المحافل عينها أنّ تصويت «القوات اللبنانية» كان اعتراضاً سياسياً، بل رسالة عن استمرارها في أداء دور متمايز مسيحياً على يمين «التيار الوطني الحر»، وأيضاً مراعاةً لتكتيك معراب العام الهادف الى إنجاح استراتتيجية تثبيت دخول «القوات» الى نادي أحزاب السلطة. ثمّة مشكلة أساسية تواجه «القوات»، وهي أنها بلا حليف سياسي داخلي واضح. وخطوتا الورقة البيضاء لبري وترشيحها عضواً منها لنيابة رئاسة المجلس، أرادت «القوات» من خلالهما فتحَ بازار حصتها من التوزير مبكراً، بأكثر ممّا هي تلبية لموجبات موقف مبدئي أو استراتيجي، كما قال جعجع.
أما تصويت كتلة «المستقبل» بـ»نعم»، فكان منتظراً بمثل ما كان منتظراً تصويت حركة «امل» و«حزب الله» بـ«نعم للأخ نبيه بري». الحريري هو في السياسة سليل إرث والده، وفي جانب من معادلة وصول لقب «دولة رئيس الحكومة» اليه، هو سليلُ ثنائية عن شراكة بات فيها «نكهة العِرف»، بين رئاسة ثانية لبري وثالثة للحريري.