IMLebanon

نادين لبكي ودواعش الثقافة

 

ليست المرّة الأولى التي تتعرّض فيها المخرجة نادين لبكي لحملةٍ شعواء لإطلاقها عملاً ناجحاً. ولأنّها من قماشة “غير تقليدية”، شاءت الشابة المتألّقة – وبفعل الأزمة الاقتصادية الحادّة التي تعصف ببلدها – إطلاق حملة “توعية خضراء”، علماً أنها من الفنانات القليلات اللواتي يتقنّ فنّ الكلام الواعي والمقابلات الرزينة. ومنذ مشاركتها في تجربة “بيروت مدينتي” برهنت لبكي أنها تأبى “التقوقع” في دور المتلقّي السلبي، مفضلةً التحوّل، قدر المستطاع، الى “محرّك” للتغيير بعيداً من جولات الندب والتنظير.

 

وهكذا أطلتّ المخرجة على جمهورها أخيراً بحملة جديدة حملت عنوان “زريعة قلبي” المستوحاة من أغنية “حشيشة قلبي” التي ذاع صيتها مع فيلم “وهلأ لوين”. وبمساعدة زوجها الفنان خالد المزنّر والمسرحي جورج خباز، أدخلت لبكي تعديلاتٍ على كلام الاغنية، تشجيعاً للمواطن على الاكتفاء الذاتي في إعداد الجبن واللبن والمربى، داعيةً إياه الى محاربة الغلاء بالزراعة كيفما اتّفق له ذلك، على أسطح البنايات أو في “الجنينات” او حتى عالبرندا: “منّا عويصة وهينة، انكشيها وفلحيها وزرعيها وسقيها واقطفيها”، تقول الاغنية التي ضمّت في كليب خفيف الظلّ وجوهاً فنية وإعلامية جامعةً مبادرات الزراعة المستدامة لمساعدة الراغبين وموفّرة المشورة والمساعدة لمن يشاء. وأحدث الكليب ضجةً منذ الدقائق الاولى لطرحه.

 

لم تقترف لبكي إذاً جريمةً، بل بالعكس، من موقعها كفنانةٍ شديدة التفاعل مع محيطها، مدّت شعبها – الذي ينوء تحت وطأة أزمةٍ اقتصادية مستفحلة وضائقة معيشية تُحني هامته – ببارقة أمل. وفور انطلاق الحملة انبرت أقلامٌ مسنّنة من أوساط تدّعي العلم والثقافة تنهش بفحيحها المسموم جوهر المبادرة، متهكّمة على حماسة لبكي “المفتعلة”، وفق قولها، معتبرةً أنّ من يقصد “سوق الطيّب” لا يحقّ له دعوة شعب كادحٍ الى الزراعة.

 

أضحكتني المقارنة الخرقاء وذكّرتني بمن يتهكّم على تلفونات الثوار الباهظة الثمن، أو سيّاراتهم الفاخرة، وكأنّ يسر الحال عاملٌ يقصي الطبقة الميسورة عن أيّ ثورة، أو مسيرةٍ مطلبية، وينتزع حكماً من المنتمين إليها حقّ إبداء الرأي أو الانضمام الى حركاتٍ تطالب بتحسين الظروف المعيشية. واذا كانت ممارسة الطبقية ضدّ الفقراء مقيتة فإن اعتماد منطق الطبقية مع الاغنياء أيضاً لا يقلّ وضاعةً عن الأول.

 

حملة الانتقادات الموتورة هذه أتت من الحلقات نفسها التي قامت قيامتها ضدّ المخرجة يوم اصطحبت بطل “كفرناحوم” الطفل زين معها الى حفلة الأوسكار. يومها أيضاً، بدل الاحتفاء بترشّح وطنهم للأوسكار، انشغل هؤلاء بكيل الشتائم بحقّها، مدّعين بأنها “تستغل الفقراء للصعود على أكتافهم نحو فضاءات الشهرة”. يومها أيضاً لم يتسلّل جمال اللحظة الى قلوبهم المتفحّمة، ربما لشدّة القبح المعشّش في أعماقهم. لم يدركوا طبعاً سحر الانتقال من تعاسةٍ مفجعة الى فرحٍ عارم، والتحوّل من كائنٍ “لامرئي” الى محطّ ثناءٍ وتقدير…

 

“شو ما عملت مكروهة هل المخرجة”، يعلّق أحد “المستثقفين” بعنجهية على صفحته… مزيج من القرف والسخرية يتملّكني تجاه هذا الصنف من “مدعي” الثقافة ممّن يعتقدون أن نشرهم حفنةً من التفاهات، أو استخدامهم عباراتٍ بالانكليزية أو اللاتينية كفيل بنقلهم الى مصاف المثقفين، وهم أبعد ما يكونون عن الثقافة… أمثال هؤلاء لا تتوسّل منهم تقديراً لأيّ فعل جميل، فهم لا يجيدون إلا القباحة ولا يستدعون منك إلا الشفقة!