نفذت مجموعة من الناشطين والبيئيين مسيرة في نهر الكلب احتجاجاً على الحفريات الجارية في المنطقة، تمهيداً لتشييد مقر لـ«التيار الوطني الحر» عند سفح جبل «نهر الكلب».
وتحت عنوان «دَمّرتو ماضينا ومستقبلنا وحِلّوا عن تاريخنا»، واحتجاجاً على أعمال الحفر التي تمس بالموقع التاريخي وبالبيئة، انطلقت المسيرة من لوحة الجلاء في «نهر الكلب» وصولاً الى المبنى الذي يُعمل على تشييده، حيث وضعت حول المكان الاسلاك الشائكة، في ظل وجود قوة كبيرة من الجيش.
وأكد المتحدث باسم «التيار الوطني الحر» فادي حنا للاعلاميين «انّ «التيار» يملك كل الرخص القانونية»، لافتاً الى أنّ «المبنى مطابق لمبدأ الـ green building، والاثارات موجودة في عقار غير تابع للتيار». واعتبر أنّ «التحرك يأتي ضمن خلفيات سياسية معينة».
وردّ الناشط البيئي بول أبي راشد على الاتهامات التي تُساق من «التيار الوطني الحرّ» ضدهم على انّ توقيت التحرك مَشبوه، وانّ هناك احزاباً وخلفيات سياسية تحرّكهم، فقال لـ«الجمهورية»: «صحيح انّ البناء تم افتتاحه في آب من العام المنصرم، إلّا أنّ احداً لم يلتفت إلى خطورة ما يجري إلى أن وَصلتنا في أواخر أيلول الصوَر الأولى عن الحفريات ومقاطع فيديو تُظهر حجم الإعتداء والكارثة التي تحصل، فبعثت برسالة الى وزارة البيئة لم أحصل على جواب عنها إلّا متأخراً، وأتت الثورة لتوقِف كل المتابعات»، مؤكداً أن «التيار» هو من يُسَيّس الموضوع، إنما نحن لا ننطلق من خلفيات سياسية، وبالنسبة لنا لا توقيت محدداً لطرح أي مسألة تتعلق بالاعتداءات البيئية، فهذه المبادرات لا تدخل في الحسابات السياسية». وطالبَ أبي راشد وزير البيئة بتجميد المشروع الى حين إعداد دراسة الأثر البيئي.
المحتجّون الذي مَشوا بين حشد كبير من الجيش اللبناني الذي حاول منعهم من العبور في بادئ الأمر، وصفوا المشهد بالمُهين والمعيب، وبأنه إجرام بحق إرث لبنان وذاكرته التاريخية، لِما للجبل من أهمية استراتيجية ومهمة وليس من المفترض المَسّ به. وأكدوا أن الأمور ستتطور، والتحركات ستتواصل، ولن تقف عند هذا الحد، بل ستكون هناك مطالبات من المنظمات البيئية الدولية، التي بدأت التحرّك، ومنها المجلس الدولي للآثار والمواقع في لبنان («ايكوموس»)، التي دعت الى وقف أعمال الحفريات وإلّا سيخسر الموقع التصنيف.
وأبدى المجلس قلقه البالغ إزاء الحفريات التي تحصل في منطقة نهر الكلب المصنفة منذ عام 2005 في قائمة اليونسكو – ذاكرة العالم، وكذلك في عام 2019 على اللائحة المؤقتة لمواقع التراث العالمي لليونسكو على أنها لا تلبّي شروط الحماية والمحافظة على أنف الجبل والنصب التذكارية.
واعتبر المجلس «انّ الموقع مهدّد بالانقراض بسبب بناء مجمّع سيكون بمثابة مقر حزب سياسي، ما سيؤدي الى تشويه المواقع التراثية من خلال الحفريات وما وصفه «التسلل» على المشهد التاريخي له». إذ إنه من المتوقع أن يتم تنفيذ المجمع مباشرة على أنف الجبل وعلى بعد بضعة أمتار من الدعامات التذكارية لنهر الكلب التي تؤثر على السياق البصري مباشرة. واعتبرت المنظمة انّ ما يحصل هو ازدراء بقرار سياسي، من دون أي احترام للحد الأدنى من المنطقة العازلة حتى لو لم تحددها السلطات المسؤولة.
ومع هذا «الاقتحام المباشر»، سيفقد الموقع كل فرَصه المُدرجة في قائمة التراث العالمي، وسيكون معرّضاً للخطر وغير محمي.
وطلب المجلس بشدة «الوقف الفوري لحفريات البناء وإعادة النظر في المشروع. فعدم احترام التراث الثقافي من قبل الحكومة والنظام اللبناني الماروني، أمر شائِن في سياق الحفاظ على تاريخ وذاكرة بلادنا للأجيال المقبلة».
مَن شارك في المسيرة، رأى في وضوح نقوشاً متواضعة تختصر معارك تاريخية كبيرة وإمبراطوريات مرّت في تاريخ لبنان. كل هذه المعالم مختصرة بنقوش على صخور من بضعة امتار. لذا، سأل المحتجون: «كيف يمكن تدمير آلاف السنوات من الثقافة والمعرفة فقط من أجل بناء مركز لحزب معيّن».
عالِم الآثار فادي اسطفان، والذي شارك في المسيرة، أوضح لـ«الجمهورية» انّ فجوة الحفريات ضخمة جداً. مُعرباً عن أسفه «لبعض التصرفات غير الثقافية التي تساهم في مَحو آثارنا».
وأشار إلى «انّ الأعمال تبعد فقط نحو 40 متراً عن الآثار، وهذا أمر مُضرّ بمعلم صُنِّف ضمن «ذاكرة العالم» موقتاً، لتكون الخطوة الثانية تصنيفه من ضمن التراث العالمي».
وقال: «هذا المتحف في الهواء هو الأول من نوعه، يضم أنواع كتابات لحضارات عدة، منها الهيروغليفية والآشورية والبابلية، والبابلية الحديثة وصولاً الى اللاتينية والعربية والفرنسية والانكليزية». وأضاف: «هناك صخور تعبّر عن رسوم معينة كالساعة الشمسية التي يظنها البعض انها مجرّد صخرة».
ولفت إسطفان الى انّ هذه المنطقة تسمّى عند الآشوريين بـ«بعلي راسي» أي «رأس البعل» ومعناها «رأس السيّد»، فيما سمّاها اليونانيون والرومان «ليكوس». وهناك يوجد «تمثال الذئب» قال عنه الفارس الفرنسي لوران دارفيو عام 1654: «كان هناك في السابق تمثال ذئب كبير نَحته الوثنيون من الرأس المتقدّم في البحر، مهمته اكتشاف الجيوش التي كانت قادمة وتحذيرها من صيحاته التي كانت عالية، والتي كانت تُسمع من قبرص»…
وكشف أنّ المنطقة تحتوي على نُصب عدة، منها مصرية قديمة لرعمسيس الثاني الذي يعود الى القرن 19 ق.م. ونصب آشورية تعود الى العام 882 ق.م. لشور نظيريال وابنه شلمنصّر. ونصب إغريقية، اضافة الى أخرى لاتينية وعربية وفرنسية وانكليزية، وأخرى عائدة لزمن الاستقلال.
وحذّر من انّ «استمرار الحفريات وتشييد البناء، إضافة إلى أنهما يُسيئان الى منظر الموقع طبيعياً، يمكن أن يؤديا إلى تصدعات في المستقبل»، آسفاً «لحجم الفوضى الموجودة في لبنان حالياً، في حين أنّ مثل هذه المعالم احترَمتها كل الأجيال التي مرّت على لبنان».