IMLebanon

نهرُ الموت وجلُّ الديب ونهرُ الكلب

 

القافلة لا تسير … والكلاب تنبحُ وراء عرَبَةٍ يجرُّها حصانٌ أعرج.

مهلاً…لا تظنّوا أنني هنا أستخدم المجاز البياني الذي يُستعمل في غير معناه لأتكلم على تأليف الحكومة… فالحكومة وتأليفها، ووجودها وعدم وجودها سيَّان.

الكلام الأجدى بالإهتمام هو على هذه القوافل المتصارعة حتى الموت مع الإختناق المروري بين بيروت وجونيه، بما يختصر كل فضائح الحكام والحكومات والوزارات والنيابات والزعامات، ويفضح خفَّةَ المسؤوليات في هذه الدولة العليّة، والجمهورية القوية ولبنان القوي.

بضعة كيلومترات بين بيروت وجونيه كأنَّك تسافر معها من دولة الى دولة، تتخبَّظ في بحرٍ من الحديد المتناطح وتنتقل كمشروع شهيدٍ يتحرَّق في لظى اكتظاظِ السيارات، وتعيش معاناة الإختبار في غيبوبة الإحتضار.

وتحت وطأة انهيار الأعصاب وارتفاع ضغط الدم، ما عليك إلاّ الإستعانة بحبوبٍ مخدِّرة أو بإِبَرِ البنج أو بطبيب القلب، ويقتضي من باب الإحتياط أن تحجز سريراً في غرفةٍ للعناية الفائقة، حتى أذا لم تكن من أزلام الزعيم، أو لا تحمل سندات تمليك عقاري، فقد تظل أمام غرفة الطوارىء حتى تلفظ الأنفاس الأخيرة.

رحلة الموت على طريق نهر الموت ونهر الكلب مكتوبة في الدوائر العقارية الرسمية للبؤساء والمساكين من عامة الشعب، أما أهل الحكم والحكومات والزعامات، فقد تنفرج أمامهم الطرقات فسيحة آمنة، وتتوقف دون مواكبهم السيارات، حتى ولو توقّفت حياة الذين يستقلّون سيارات الإسعاف.

بين بيروت وجونيه مسافة قصيرةٌ في الجغرافيا وبعيدة في الزمن، وكأن جونيه هي طريق في فلسطين على ما تنبَّأ بِهِ الزعيم الفلسطيني «أبو أياد» ذات يوم، وما أدراك…؟ فقد تصبح جونيه ذات يوم في جغرافية أهل الحكم، جزيرة في محيط لم يكتشفها بعد كولومبس.

ندعوكم الى عاصمة الموارنة في كسروان، هذه التي سميّت على إسم كسرى أحد أمراء المردة وقد ظفر بتأييد ملك القسطنطينية، فيما أحفاد المردة لا يتمرَّدون على عزل كسروان بقدر ما ظفروا بالتمرد على أنفسهم وبتأييدٍ منْ ملوك البربر.

ندعوكم الى كسروان عاصمة المشايخ التي انطلقت منها إنتفاضة الفلاحين وثورة طانيوس شاهين، ولا تنتفض على الطيور الغريبة التي تحلِّق فوق شواهينها، ولا على الذين جعلوا الوصول إليها من طريق التحليق.

نحن في دولة لم تستطع على مدى ثلاثين عاماً وأكثر، أن تحلّ مشكلة السير ومشكلة الماء والكهرباء والنفايات، وهذه من أدنى بديهيات تأسيس الدولة، وأدنى أوَّليات نشوئها… إذاً نحن، في دولة اللاّدولة.

لقد كان عندنا كهرباء فأطفأوها، وكان عندنا مطامر فطمروها، وكان عندنا ماء فجفَّفوه وسيْرٌ فعرقلوه، لأنّ وراء كل قصة حصّة، ووراء كل مناقصة محاصصة.

من بيروت الى جونيه، وأنت تمـرُّ بنهر الكلب تقرأ كتابات منقوشة على اللوحات يقول فيها نبوخذنصّر ملك بابل: «أقمتُ في لبنان تمثالي لكي يعتبر كل طامح بلبنان فلا تحدِّثه نفسه بالإعتداء على أهله…»

ما دامت التماثيل التي عندنا لا تقرأ النقوش وتعتلي العروش في لبنان، ويبقى هناك مَنْ تحدِّثُه نفسه بالإعتداء على أهله، فقد يظل شعب لبنان يخضع يومياً للمرور من نهر الموت الى جلّ الديب الى نهر الكلب.