«ألا أَيُّها الظَّالمُ المستبدُّ حَبيبُ الظَّلامِ عَدوُّ الحيَاهْ
سَخرْتَ بأَنَّاتِ شَعْبٍ ضَعيفٍ وكَفُّكَ مخضوبَةٌ من دمَاهْ
وسِرْتَ تُشَوِّهُ سِحْرَ الوُجُودِ وتبذُرُ شوكَ الأَسى في رُبَاهْ
رُوَيْدَكَ لا يخدعنْك الرَّبيعُ وصحوُ الفضاءِ وضوءُ الصَّباحْ
ففي الأُفُق الرَّحْبِ هولُ الظَّلامِ وقصفُ الرُّعُودِ وعَصْفُ الرَّياحْ
حَذارِ فَتَحْتَ الرَّمادِ اللَّهيبُ ومَنْ يبذُرِ الشَّوكَ يَجْنِ الجراحْ
تأَمَّلْ هنالِكَ أَنَّى حَصَدْتَ رؤوسَ الوَرَى وزهورَ الأَملْ
وَرَوَّيْتَ بالدَّمِ قَلْبَ التُّرابِ وأَشْربتَهُ الدَّمعَ حتَّى ثَمِلْ
سيجرُفُكَ السَّيْلُ سَيْلُ الدِّماءِ ويأْكُلُكَ العَاصِفُ المشتَعِلْ» (أبو القاسم الشابي)
لم أتمكن من اجتزاء أي بيت من تلك القصيدة العظيمة لأبي القاسم، فهي كل متكامل، لكنها تعبّر عن واقع حال كل شعب وقع تحت الظلم لتنبئ الظالم بقرب نهايته. فالطغاة مستنسخون من الجينات الأخلاقية ذاتها.
ليس من الضرورة هنا الحديث عن الاستنساخ البيولوجي، على طريقة النعجة «دولّي»، وهو حدث علمي لا تزال الأخلاقيات العلمية والقانونية والاجتماعية حائرة في طريقة تصنيفه. فالعلم وانجازاته خارجان عن الاعتبارات الأخلاقية، فهو مجرد تعبير عن قدرة البشر على التجاوز وتخطي الحدود إلى ما لا نهاية، أكانت بيولوجية أم ماورائية. فعندما اخترع «الفرد نوبل» الديناميت، لم يُعر اهتماماً للتداعيات الإنسانية الأخلاقية، بل كان همّه الإنجاز الذي يتجاوز به قدرات البشر الجسدية من خلال التكنولوجيا، يضاف إليها مصلحة الشركة التي أسسها لتطوير التقنيات الحربية. والجائزة السنوية المعروفة باسمه، هي وقف مرصود من قبل ورثته لتشجيع التجاوز البشري في مختلف أبعاده العلمية والثقافية، وقد تكون جائزة «نوبل» للسلام نوعاً من التعويض المعنوي عما تسببت به اختراعاته من مآس وضرب للسلام. لكن نوبل بالذات لا يمكن اتهامه بأنه سبب مأساة السلاح المدمّر، فالبشر المطبوعين على العنف كانوا سيجدون بينهم عشرات مثل نوبل لاختراع طريقة أخرى للدمار، متجاوزين دائماً الاعتبارات الأخلاقية. الإشكال في العلوم أنها ذاتها تنتج سيوفاً بحدين، وكل تقنية يمكن أن تكون سلاحًا للدمار أو أداة للإعمار، سبيلا للنور أو طرقًا إلى العتمة، بلسم أو سم…
لكن، بالعودة إلى الاستنساخ، فقد ظهرت مجموعة من الروايات التي تحولت إلى أفلام هوليودية، بعضها هزلي وبعضها الآخر مرعب، تتمحور على استنساخ الديناصورات القاتلة، وأخرى عن استنساخ «جنكيز خان» أو «تيمورلنك» أو «هتلر».
مشكلة هذه الأفلام أنها تفترض أن مجرد استنساخ الجسم سيؤدي إلى استنساخ الأخلاق المرتبطة بالشخصية المستنسخة. لكن مسألة الأخلاق في حد ذاتها لا يمكن أن تكون مرتبطة بالعامل البيولوجي فحسب، بل هي نتاج جدلية متعددة الأطراف بين الطبيعة والتطبّع والظروف الموضوعية والحقبة التاريخية والسائد في المجتمع والتجربة الشخصية. فكما يقول الفيلسوف مارتن هيدغر إنّ البشر هم ما هم في العالم وليس فقط ككيانات بيولوجية، والبشري هو في الوقت ذاته ماض وحاضر وتطلع للمستقبل.
شرح يطول حول ما سبق، وقد يكون البحث النظري بنحو حيادي أكثر جاذبية لمن هم بحالي من الأمور اليومية الملحة، لكننا، لكوننا في العالم وليس في عالم المثل الأفلاطوني، نعود لنبحث في الواقع البديهي مصحوباً بكل ما عندنا من شحنات من الماضي والحاضر والمستقبل. في هذا الإطار، نائب الأمين العام لـ»حزب الله» نعيم قاسم، قال العام الماضي، في محاضرة «ثقافية» رمضانية، أمام نساء من أتباع حزبه، انه لا يجوز للمرأة المطلقة أن تتولى مهمة التعليم، لمجرد أنها فشلت في الحفاظ على زوجها! يعني أن المرأة تصبح خارج الخدمة وعالة على المجتمع، بمجرد أنها طليقة من رجل ما، قد يكون ما يكون فيه من صفات وعلات أدت إلى الطلاق! لا بأس، فلا أنتظر ممن يستقي فكره وعقيدته وتوجيهاته من مجاهل الجاهلية ومن العصور المظلمة الهائمة في مجاهل التاريخ أن يعطي امرأة حقها الذي تصونه الأديان وحقوق الإنسان في الطلاق عندما يصبح الزواج عبئا عليها يجردها من حقها كإنسان.
هذا نمط تفكير يتشارك فيه بعض البشر مع الديناصورات ربما، أو مع أشباهها من الذكور المتنمرين، وللأسف حتى مع بعض النساء الذين يصدقون أنهن من جنس أدنى مرتبة. لكن، بالعودة إلى نعيم قاسم، وفي معرض تعليق منذ أيام على ما تبقى من قوى 14 آذار، قال ما معناه ان دليل تفاهة هذه القوى هو فعل تشرذمها، في حين أن «حزب الله» باق على صلابته وأنه حزب «الوطن» الوحيد. لم يخطر ببالي عند سماعي هذا الكلام إلا «جوزف غوبلز»، عبقري الدعاية النازية، عدو الثقافة والانفتاح، وصديق الكذب المتكرر الذي يعلق لوحده، رغم تهافته، في ذهن الناس، لمجرد أنه يتكرر دائما ولسهولته لكونه يتألف من بضع كلمات بسيطة قشرية لا تدخل في عمق الأمور ولا تحللها بموضوعية.
الواقع هو أن المنظومات ذات الطابع الحر وغير العقائدي، تبقى عرضة للتفرق والافتراق لمجرد أنها كما هي، أي ذات رأي حر ومتحرر من الفتاوى، شرعية كانت أم سياسية. من هنا، فهي لا تُقاد بأي تكليف ولا تحتاج لتقليد أي مرجع، سوى ضميرها وما يقنعها أو تجد فيه مصلحتها. ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى كانت منبع فلسفات ورؤى سياسية متضاربة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ومن عتي المحافظة إلى قمة الليبرالية ومن عمق الإيمان إلى مطلق الإلحاد. في ظل كل ذلك، ظهرت عقيدة صماء اسمها النازية، كان مؤسسها ومساعدوه متخصصين بصنع البروباغندا، وغوبلز كان السبّاق إليها. لم يستحصل الحزب النازي عام 1933 إلا على ثلث نواب «الرايخ ستاغ»، أي مجلس النواب، لكن قوته كانت في تفرّق الآخرين، والأهم في جنوحه وتسويغه لاستعمال شتى أنواع العنف لتحقيق السلطة المطلقة. أحرق مجلس النواب بعد ذلك، واغتال كل شخصية قد تعوق مسيرته نحو الشمولية المطلقة وأنزل ميليشيات النازية بقمصانها السود لإرهاب العدو والصديق. ومن ثم دانت لهتلر أكثرية شعب ألمانيا لأن «الحزب النازي هو الغالب المنتصر». تقاطرت أعظم شخصيات ألمانيا من مالية وثقافية وعلمية لتنسب نفسها إلى الحزب المنتصر الذي صار، كما حزب نعيم قاسم «حزب الوطن» الوحيد، ووئدت الثقافة وذبحت الديموقراطية. كانت ألمانيا في حاجة لقرن ونصف قرن من الزمن لتندم بعدما فات قطار الندم، وللتحول، تقريبًا كما نحن اليوم، إلى أمة من المتسولين الهائمين على وجههم وتتحول مدنهم الزاخرة بالتاريخ إلى أطلال.
حزب نعيم قاسم أحرق دور البرلمان بإغلاقه قسراً، واغتال في من اغتالهم رئيس وزراء وكل من أعاق طريقه، وأنزل قمصانه السود ليرهب بميليشياته الصديق والعدو. أوجه الاستنساخ الأخلاقي لغوبلز النازي فاقعة في خطابات نعيم قاسم ومَن والاه. مع عدم إنكارنا لواقع تفرّق قوى 14 آذار، لكن البديل الذي يضعنا أمامه قاسم هو حتمًا قاتم، يشبه إلى حد بعيد مصير ألمانيا التي حكمها «حزب الوطن النازي» في غفلة من الزمن، وبسبب تفرق عشاق الحرية وأنصار الحياة. فهل يتكاتف هؤلاء اليوم لوقف زحف الديناصورات القاتلة ومنع الحزب الغالب من ضرب التعددية؟