IMLebanon

مسمار جحا في لبنان

 

سوف يبقى جحا قادراً على أن يمدنا بما يفسر لنا الكثير من المواقف الملتبسة حولنا، حتى إن كان قد صاغ حكاياته لمواقف أخرى لا علاقة لها بما نواجهه نحن في حياتنا المعاصرة! ويقول ما يجعله خليطاً من الحقيقة والخيال في وقت واحد!

ولكننا نعرف أنه كان يملك بيتاً، وأنه فكر ذات يوم في عرض البيت للبيع، وأن العملية كانت لا تتم في كل مرة، لأنه كان يضع شرطاً من الصعب أن يقبل به المشتري، أو بمعنى آخر: فإن شرط جحا كان، رغم بساطته، يضع الراغبين في الشراء في حيرة بالغة!

كان جحا قد جاء بمسمار، ثم ثبّته في ركن من الأركان، وطلب من كل الذين جاءوا يعرضون الشراء أن يبقى المسمار ملكاً له، وأن ينتقل كل شيء في البيت إلى الشاري، إلا المسمار. ولم يكن أحد ممن أرادوا شراء بيته يفهم السبب، وكانوا يرون في مسماره لغزاً يعجزون عن فهمه، وكانوا في اللحظة الأخيرة ينصرفون ولا يقبلون ببيت.. إلا مسمار!

وجاء واحد وقرر أن يشتري، وأن يغامر، ولم يعبأ كثيراً بحكاية المسمار، ولا هو توقف عندها، وكان تقديره أن البيت بكامله ما دام سينتقل إلى حوزته بمجرد إتمام الشراء، فلا أهمية لمسألة المسمار هذه، لأنها لا تمثل في النهاية شيئاً له قيمة، بالقياس إلى بيت طويل عريض!

ووافق البائع والمشتري على الشرط العجيب! وأضاف جحا شرطاً آخر كان يبدو بسيطاً أيضاً كالشرط السابق، وكان هذا الشرط الجديد الذي وافق عليه الشاري دون فصال كثير أن من حق جحا أن يأتي ليطمئن على مسماره في أي وقت، وأن مالك البيت ليس من حقه أن يمنعه من الدخول للاطمئنان على المسمار متى أراد ذلك، وفي أي ساعة شاء من الليل والنهار!

وما كاد صاحب البيت يسكنه حتى اكتشف أن القصة ليست مسماراً صغيراً مُثبتاً في حائط، ولكنها حُجة يستطيع بها جحا، ومن ورائها، وباسمها، أن يدخل وأن يخرج، وأن يتصرف كما يحب، وأن يحقق أهدافاً أخرى ليست من بين بنود العقد.. والحجة الجاهزة كانت أن له مسماراً في البيت، وأن الذي اشترى وافق ابتداءً، ولم يمانع، ولم يعترض!

ولا يختلف مسمار جحا، في معناه، وفي مراميه، وفي أبعاده، عن سلاح المقاومة الذي يتكلم عنه «حزب الله» في لبنان، كلما ناقشه أحد في وظيفة سلاحه، وفي الهدف الذي جاء هذا السلاح من أجله إلى الجنوب اللبناني منذ نشأ الحزب قبل 35 عاماً!

فليس في الكتاب الذي وضعه نعيم قاسم، نائب الأمين العام للحزب، عنه أي كلام عن سلاح له خارج نطاق مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لأرض لبنان.. هكذا الأمر بوضوح كامل، وفي هذا النطاق، دون كلام عن أي نطاق آخر، يمكن أن يمتد إليه سلاح الحزب! إنه لمقاومة المحتل.. وفقط!

وحين تطالع تصريحات محمد علي جعفري، قائد الحرس الثوري الإيراني، إلى تلفزيون بلاده أخيراً، يتبيّن لك أننا في حاجة من جديد إلى تعريف معنى المقاومة، ومعنى سلاحها، حتى نتفق على معنى محدد نتكلم عنه، ونقصده، ولا نقصد سواه! وإلا فإننا سنجد أنفسنا أمام سلاح يشبه مسمار جحا.. سلاح له هدف ظاهر، ومتفق عليه، ومعترف به.. وهدف آخر باطن، وغير متفق عليه، ولا معترف به، منذ كان للحزب وجود!

يقول جعفري، في حديثه، إن سلاح المقاومة خارج كل نقاش مع الحزب، وإن هذا السلاح موجه إلى العدو الأول للبنان، وهو إسرائيل! وهو كلام جميل في حد ذاته، كما ترى، ولا شيء فيه من حيث الشكل، غير أن الواقع يُكذبه، لأن الثابت خلال السنوات الأخيرة أن الحزب توجه بسلاحه مرة إلى القتال في سوريا، ومرة إلى الداخل اللبناني، كلما تأزم الأمر سياسياً مع سائر شركاء الوطن الذين لا ينكرون على «حزب الله» لبنانيته، ولا حقه في أن يكون ذا نصيب في الحكم، ولا كذلك حقه في أن يشارك.. فقط يشارك.. لا أن يغالب، ولا أن يستقوي، ولا أن يفرض ما يراه على بلد بكامله، ولا يتدخل فيما لا يعنيه في محيط لبنان!

وعندما أعلن سعد الحريري تريثه في استقالته، رحب الحزب ضمن مَنْ رحبوا بها، وظننا أن الترحيب سيكون بداية لصفحة جديدة، ينأى فيها «حزب الله»، مع رئيس الوزراء، بلبنان عن صراعات المنطقة، ويبتعد به عن أن يكون طرفاً أو أرضاً لأي لاعب إقليمي يريد أن يهيمن، ويريد أن يوظف الساحة اللبنانية لتحقيق مصالحه في الإقليم، منتهكاً سيادات دول، ومعتدياً على حدود أوطان!

ظننا ذلك، فإذا الحزب يقول إنه مستعد للجلوس مع الشيخ الحريري، ومناقشة كل شيء على الطاولة.. إلا سلاح المقاومة!

وهكذا، عدنا إلى منطق مسمار جحا من جديد، لأن السؤال هو: مقاومة مَنْ؟! وحين تحدث صلاح البردويل، عضو المكتب السياسي لحركة حماس، إلى هذه الجريدة، الجمعة الماضية، قال إن العلاقة على المستوى العسكري قائمة مع الحزب، وإنها من قبيل علاقة مقاومة بمقاومة.. ثم قال الآتي نصاً: إننا لم نرغب في أن يلوث الحزب نفسه بالتدخل في سوريا!

فهل لا يزال الحزب يرى في ذهاب عناصر منه إلى دول في الجوار، سواء كانت سوريا أو غير سوريا، مقاومة لعدو يستهدف لبنان؟!

سوف يسترد الحزب ما كان له من رصيد في الشارع العربي، إذا عاد حزباً يقاوم محتلاً في الجنوب، ولا يعرف سلاحه وجهة أخرى غير الجنوب. وسوف يستعيد صورته الأولى، إذا تخلى عن أن يكون مسماراً كان جحا يُخفي وراءه أهدافاً، ويُخبئ من تحته أغراضاً تتجاوز حدوده، وتتعدى إطاره، وتتمدد في أرجاء البيت، وخارج أرجاء البيت!