لم يقطع الرئيس نجيب ميقاتي خطوط التواصل مع القوى المسيحية من موقعه رئيساً للحكومة. هي علاقة الضرورة التي تجعل هذه القوى والشخصيات المستقلة على تقاطع معه في شكل دائم، سواء سمّته رئيساً مكلفاً أو لم تسمّه
لا تنطبق على رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي نظرية «الرئيس القوي» في طائفته، على غرار ما انبنت عليه تسوية الرئيس ميشال عون والرئيس سعد الحريري، والتي نجمت عنها حكومتا التوازن الأولى والثانية للعهد بين الزعيم المسيحي والزعيم السني. مع ذلك، عاد اسم ميقاتي رئيساً للحكومة الحالية، كما يتصدّر اسمه اليوم لائحة المرشحين لتشكيل الحكومة الأخيرة التي تسبق نهاية العهد بأشهر قليلة.
اطمئنان ميقاتي للثنائي الشيعي هو اليوم، كما بالأمس، البديل من أي مساومات سياسية أو تصويت لتكليفه رئاسة الحكومة المقبلة. في هذه النقطة، رهانه أن الثنائي لن يغامر في مرحلة حساسة في أسماء لا تشكل ثقلاً خارجياً أو محلياً، لأن المطلوب ليس رئيس حكومة من خارج النادي السياسي التقليدي، أو رئيس حكومة تكنوقراط، أو رئيساً طيّعاً في يد التيار الوطني الحر الذي ينتهي قريباً دوره كرئيس ظلّ في قصر بعبدا. ويعرف أن استكماله ارتدادات المبادرة الفرنسية التي رست أخيراً عليه، من دون غيره، تجعله مرتاحاً الى غطاء لا يزال قائماً ولو من دون استكماله سعودياً كما كان يأمل. هذا الاطمئنان الى الثنائي جعله رئيساً للحكومة لثلاث مرات، وتكاد الرابعة تقترب من أن تصبح في الجيب.
ولأن مندرجات الوضع السنّي أصبحت معروفة في الفوضى السنّية السياسية تجاه مستقبل الاستحقاقات، ولأن ميقاتي يغزل علاقة جيدة ومتوازنة مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، تصبح علاقة ميقاتي بالقوى المسيحية على المحك، حين تصبح عودته الى الحكومة وشيكة، لكن ليس من خلال هذه القوى.
تُطرح في كل استحقاق أهمية الميثاقية في المجيء برئيس للحكومة أو رئيس لمجلس النواب. قطوع انتخاب الرئيس نبيه بري بتغطية مسيحية بالحد الأدنى، سبق أن عاشه ميقاتي، ويمكن أن يعيشه مجدداً، لكن واقع الحال أنه سيصبح في النهاية رئيساً مكلفاً. لذا بدا الكلام يأخذ منحى آخر حول جدوى استمرار رفض تسميته، في حال كان المسار الحالي في لحظات مفصلية يحظى بتغطية خارجية، وهو كلام يأخذ مداه لدى قوى مسيحية.
لم تكن علاقة ميقاتي بالوسط السياسي المسيحي أفقياً تشبه علاقة أسلافه، من الرئيس سعد الحريري مثلاً ببكركي والشق المسيحي بقوى 14 آذار قبل انفراط عقد التحالف، أو الصلات التي جمعت الرئيس فؤاد السنيورة منذ عام 2005 بهذه الأطراف. وحكماً لا علاقة لها بما ربط المسيحيين تقليدياً بالرئيس تمام سلام الذي وقف مع المقاطعة المسيحية في انتخابات عام 1992.
جاء ميقاتي الى السياسة معززاً بعلاقة مع طرف مسيحي هو تيار المردة ورئيسه سليمان فرنجية. لكن مجيئه الى رئاسة الحكومة في استحقاق عام 2011، الذي تم عبر «انقلاب الرابية»، كان من خلال علاقة سياسية مع التيار الوطني ليس من الباب المسيحي، بل من الباب الشيعي. أي أن ميقاتي لم يصنع تحالفاً بالمعنى الذي صاغه لاحقاً الحريري مع التيار الوطني الحر، ولا أبرم صفقة مفصّلة على قياس التيار. بل إن التحالف مع التيار كان بصفته أحد أعمدة قوى 8 آذار، فرست التسوية الحكومية أكثر من مرة بينهما على هذه القاعدة.
الأمر نفسه تكرر مع الحكومة الحالية، التي فاوض رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل فيها بالتفاصيل، لكن الخيار رسا أخيراً على توجّهات وحصص كان الثنائي وسيطاً فيها. وفي المحصلة لم تربط رئيس الحكومة «الوسطي»، الأقرب الى الثنائي الشيعي سياسياً منه الى نادي رؤساء الحكومات السابقين (ما خلا في موضوع صلاحيات موقع الرئاسة الثالثة)، أي علاقة تحالف سياسي مع التيار الوطني أو رئيس الجمهورية. وما حصل في ملف الكهرباء أخيراً دليل على أن ما بينهما مصلحة متبادلة عبر طرف ثالث لا أكثر ولا أقل.
في المقابل، لم يقطع ميقاتي خطوط التواصل مع القوى المسيحية كافة. يقول أحد السياسيين إن «ميقاتي لا يدوّر الزوايا فقط، بل يدوّر الدوائر»، لذا تصبح علاقته بالمكونات المسيحية لافتة. فعلاقته بالقوات التي لم تسمّه لرئاسة الحكومة أكثر من جيدة. إذ قيل كلام في انتخابات عام 2018 عن أصوات صبّت لمصلحة كتلته، وأن أجواء القوات مفتوحة دائماً على السير معه في خطوط متوازنة. صحيح أنه ليس حليف القوات السني، لكنه لم يتصرّف معها على قاعدة تصفية حسابات سياسية أو انتخابية. وعلاقته بالقوى المسيحية المستقلة كذلك لا تحمل صدامات ولا تحدّيات، لا بل إن نادي رجال الأعمال يمكن أن يكون باباً للكلام السياسي كما الاقتصادي. بالنتيجة، تصرفت القوى المسيحية مع ميقاتي من منطلق موقعه رئيساً للحكومة، وهو تعاطى معها من الزاوية نفسها.
كيف يترجم ذلك في عملية التكليف المرتقبة؟
نقاش مسيحي حول ضرورة تسمية ميقاتي ودرس ما يمكن تحصيله في المقابل
لم تسمّ غالبية القوى المسيحية الرئيس ميقاتي سابقاً، لكن ذلك لم يمنع قيام علاقة متوازنة، تحكمت بها الضرورة في كثير من الأحيان. فميقاتي لم يقدّم نفسه زعيماً سنياً بمعنى حامل إرث ومشروع، والقوى المسيحية – موالاة أو معارضة أو مستقلين – تعاملت معه على قاعدة أنه رئيس للحكومة بالمعنى التقني والسياسي. لكن المرحلة الحالية مختلفة، لذا يصبح النقاش الجدي حول إمكان توسع حلقة المؤيدين لتسمية ميقاتي بخلاف المرة السابقة، ودرس شروط ما يمكن تحصيله في المقابل، ولا سيّما أن الحاجة اليوم تبدو أكبر الى تأمين ظروف وصول رئيس للحكومة من زاوية التحضير لرئاسة الجمهورية التي يحتاج فيها الجميع الى خفض السقوف العالية. إلا أن العقبة لا تزال هي نفسها لدى التيار الوطني الحر، لأن مطالبه المسبقة من ميقاتي باتت تتقدم من الآن على احتمال تسميته. ولدى التيار تتفوّق دوماً أرجحية الحصص، الى أن يصبح مصير التكليف خارجاً عن إرادته.