بين السياسة والزعامة ودور البديل عن الحريري
كالرئيس رفيق الحريري، أتى الرئيس نجيب ميقاتي إلى السياسة من عالم المال والأعمال الذي لم يغادره، فهل يعود من السياسة إليه؟ وهل يترك هذه التجربة الطويلة خائباً؟ أم يجتاز المرحلة بانتظار أيام أفضل تبقيه في قلب اللعبة السياسية؟ وهل هي ساعة القرار بالخروج إلى التقاعد السياسي ليبقى رئيساً سابقاً للحكومة؟
خرج الرئيس ميقاتي من «موقعة تقديم الساعة» مصاباً بنكسة سياسية وشخصية لم يستطع إخفاءها وهو يتلو بيان التراجع عن القرار بعد جلسة الحكومة يوم الإثنين 27 آذار الماضي. بدا وكأنّه أقرب إلى الإعتكاف أو إلى الإعتذار عن متابعة تصريف الأعمال، وربما إلى الخروج من الحياة السياسية بعد تجربة طويلة بدأها وزيراً في العام 1998.
من المال إلى السياسة
وضع رفيق الحريري أسساً جديدة للعمل السياسي في لبنان من خلال مسيرته في الأعمال وفي السياسة. وترك بعد اغتياله مقياساً لموقع رئاسة الحكومة ولمن يؤول إليه. بينه وبين نجيب ميقاتي نقاط مشتركة كثيرة ولكن بينهما أيضاً فوارق كبيرة. جمع الحريري بين الدور والزعامة والعلاقات والتسويات الممكنة والمستحيلة. أتى أيضاً من الأعمال إلى السياسة ورئاسة الحكومة ولكنه كان علامة فارقة في خوض المواجهات التي انتهت باغتياله.
قد يكون من الظلم بحق نجيب ميقاتي مقارنة تجربته بتجربة رفيق الحريري. ولكن طالما أنّ الرجل خاض غمار العمل السياسي من الموقع الذي شغله الحريري وكاد يطوَّبه على صورته ومثاله، فإنّ تجربة ميقاتي تستحق التوقف عندها من حيث الدور الذي لعبه في محاولة لملء الفراغ الذي تركه الحريري الأب ثم الحريري الإبن.
من باب المال أتى نجيب ميقاتي إلى عالم السياسة. ولكن طريقة دخوله كانت مختلفة تماماً عن تجربة الحريري. جمع الرئيس رفيق الحريري ثروته من العمل في المملكة العربية السعودية واستطاع أن يحظى بتبني المملكة له سياسياً لتكليفه بأدوار يقوم بها في لبنان منذ نهاية السبعينات، وخصوصاً مع بداية الثمانينات ليصبح موفداً خاصاً للملك فهد. وارتبط اسمه باسم المملكة وبدورها السياسي في لبنان والمنطقة. بينما دخل الرئيس ميقاتي إلى العمل السياسي في لبنان بتعيينه وزيراً للأشغال العامة والنقل في حكومة الرئيس سليم الحص في العام 1998 التي ولدت على أنقاض تداعيات وصول الرئيس إميل لحود إلى رئاسة الجمهورية بقرار من رئيس النظام السوري حافظ الأسد، وخلافه مع الرئيس رفيق الحريري الذي تجلّى بإبعاده بقوة الأمر الواقع عن رئاسة الحكومة.
هذا الدخول إلى السياسة ربط ميقاتي بالنظام السوري على خلفية أن هناك علاقات تربطه به من خلال توليه مع شقيقه طه أعمالاً ومشاريع في سوريا تتعلق بالهاتف الخليوي. كانت حكومة 1998 معارضة للرئيس رفيق الحريري وكان مطلوباً منها أن تثبت فشل تجربته السياسية والإقتصادية في الحكم، وأنّه بالإمكان الإستغناء عنه. وصل الحريري إلى رئاسة الحكومة في العام 1992 بعد الإنتخابات النيابية التي أوصلت إلى ساحة النجمة أكثرية من الموالين والتابعين للنظام السوري، وكان تسهيل دخول الحريري كأنّه مشروط بتكليفه مسؤولية وقف الإنهيار المالي والإقتصادي على أساس أن يهتمّ بهذا الجانب من دون التوغّل في العمل السياسي. ولكنه لم يلتزم بهذا الخيار.
منطلقاً من تجربته السياسية في الحكومة ترشّح ميقاتي للإنتخابات النيابية في العام 2000 ضمن «التكتل الطرابلسي» بالتحالف مع رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية والنائب بطرس حرب على مستوى الدائرة التي ضمّت طرابلس والمنية وزغرتا والكورة والبترون بينما وضعت بشري مع عكار والضنية. القانون الذي أجريت على أساسه تلك الإنتخابات فُصِّل على خلفية تحجيم الرئيس رفيق الحريري ورئيس «الحزب التقدمي الإشتراكي» وليد جنبلاط، ولكنه انتهى إلى نتائج عكسية، حيث احتكر الحريري زعامة التمثيل النيابي السني.
وزير في حكومة الحريري
دخول الحريري إلى اللعبة الإنتخابية كان مختلفاً عن دخول ميقاتي. في العام 1992 لم يترشّح الحريري. في العام 1996 ترشّح ولكنّه كان يسجّل خطوة أساسية في طريق الزعامة السنية وتحدّي سلطة الوصاية السورية. في تلك الإنتخابات حمل في لوائحه «ودائع» سورية تخلّى عنها في انتخابات العام 2000 التي أدّت نتائجها إلى عودته حُكماً إلى رئاسة الحكومة، وفشل تجربة حكومة الرئيس الحص. شكّل الحريري حكومته بعد الإنتخابات ولكن ميقاتي حافظ فيها على حقيبته وموقعه الوزاري.
أدخلت الإنتخابات ميقاتي إلى عالم مجلس النواب بعد الحكومة، ولكنّ دخوله النيابي كان على مستوى الموقع الشخصي من دون الإرتقاء إلى مستوى العمل السياسي الكبير. كان لا يزال رفيق الحريري يهيمن على التمثيل النيابي السني مع امتدادات داخل الطوائف الأخرى ومع تحالفات سياسية واسعة، وكان ميقاتي ضمن اللعبة الحريرية. قبل العام 2000 وقبل صعوده السياسي الكبير استطاع الحريري أن يبني شبكة من العلاقات التي تبدأ في لبنان وتتوزّع في أرجاء العالم، وأن يؤسّس فريق عمل على مختلف المستويات، وأن يتّخذ من قصر قريطم مقرّاً سياسياً جامعاً وناشطاً ومقرراً في الحياة السياسية، بينما لم تكن انطلاقة ميقاتي مماثلة. فلم يبنِ فريق عمل، ولم يؤسّس شبكة علاقات موازية لشبكة الحريري، ولم يفتح مقرّاً للعمل السياسي ولاستقطاب المناصرين وبناء زعامة.
الطريق إلى رئاسة الحكومة
بقي ميقاتي وزيراً في حكومتي الحريري بين العامين 2000 و2004 حتى التمديد للرئيس إميل لحود. بعد التمديد سمع الحريري بيان اعتذاره عن عدم تأليف الحكومة وهو في طريقه إلى قصر بعبدا في تكرار لتجربة إقصائه في العام 1998. يومها سلّم الحريري كتاب اعتذاره للرئيس لحود «متمنياً أن يحفظ الله لبنان الحبيب»، كتعبير عن الأسى والأسف والخوف على مستقبل لبنان. بعد بيان العودة عن «قرار الساعة» بدا ميقاتي وكأنّه يعبّر أيضاً عن أسى، وعن تحمل نتائج قرار خاطئ، وعن نية في الإعتكاف، ولكنّه لا يشبه أسى رفيق الحريري وخروجه من رئاسة الحكومة.
كُلِّف الرئيس عمر كرامي تشكيل الحكومة خلال تصاعد التوتر الكبير بين الرئيس رفيق الحريري والنظام السوري و»حزب الله» مع تصاعد حدة المعارضة التي جمعت الحريري مع جنبلاط ولقاء قرنة شهوان والبطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير. وكان من اللافت خروج ميقاتي من هذه الحكومة التي تشكلت في 26 تشرين الأول 2004 بعد محاولة اغتيال الوزير مروان حماده. لم يكن ميقاتي يدرك أنّ اغتيال رفيق الحريري سيلقي بين يديه كرة تأليف الحكومة. عندما وقع عليه الخيار بعد سقوط احتمال إعادة تسمية عمر كرامي نتيجة مرحلة ما بعد 14 آذار، وما بعد خروج الجيش السوري من لبنان، وانقلاب المعادلات، ارتضى أن يخرج من اللعبة الإنتخابية ويشكّل حكومة العبور من مرحلة إلى مرحلة. تلك التجربة سجلت نقطة إيجابية في مصلحته خصوصاً أنّها أمنت إجراء الإنتخابات النيابية التي أعطت الأكثرية لقوى 14 آذار وأوصلت الرئيس فؤاد السنيورة إلى السراي الحكومي. كان ميقاتي يلعب دور البديل عن ضائع في لعبة محدودة في الزمان.
تجربة 2011 الإنقلابية
أتى الرئيس رفيق الحريري من صيدا إلى بيروت واختصر بزعامته التمثيل السني. ولكن ميقاتي لم يستطع الخروج من طرابلس. بقي «تيار المسقبل» الذي أسّسه الرئيس رفيق الحريري مهيمناً على التمثيل السني ولم يستطع «تيار العزم» الذي أسّسه الرئيس نجيب ميقاتي أن يماشيه. في انتخابات العام 2009 اختار التحالف مع «تيار المستقبل» والوزير السابق محمد الصفدي في لائحة واحدة. ولكن بعد أقل من عامين كان يفترق عن الرئيس سعد الحريري بعدما فرضت عليه استقالة حكومته في كانون الثاني 2011.
فقبِل ميقاتي أن يخلفه مع انقلاب المعايير النيابية بفعل الضغط الذي مارسه «حزب الله» وابتعاد وليد جنبلاط مع كتلته عن تأييد تسمية الحريري مجدداً. تلك التجربة محت من سجل الرئيس نجيب ميقاتي إيجابيات تجربة رئاسة حكومة 2005 خصوصاً أنّ تسميته اعتبرت محاولة انقلاب سياسي على سعد الحريري. ولكن هذه التجربة انتهت إلى ما يشبه نهاية تجربة حكومة الرئيس سليم الحص في العام 1998 وأدت إلى خروج الرئيس ميقاتي منها بالإستقالة.
في انتخابات 2018 التي حصلت على أساس القانون الإنتخابي الجديد وفق الصوت التفضيلي، خاض الإنتخابات في «لائحة العزم» التي شكّلها وحصل على أعلى نسبة تصويت بين النواب السنة وعلى كتلة ضمّت إليه ثلاثة نواب هم جان عبيد وعلي درويش ونقولا نحاس. ولكنّ هذا الرقم لم يجعله الرقم واحد في الطائفة السنية. حتى بعد إعلان الرئيس سعد الحريري تعليق العمل السياسي وعدم المشاركة في انتخابات العام 2022 لم يستطع ميقاتي الثبات في جولة الإنتخابات. أتى إلى رئاسة الحكومة في 10 ايلول 2021 بعد تعذر عودة الرئيس سعد الحريري وسقوط حكومة الرئيس حسان دياب. ورغم تسميته لتأليف الحكومة بعد الإنتخابات بـ54 صوتاً فقط لم تتشكّل الحكومة وبقي يملأ الفراغ الناجم عن عدم انتخاب رئيس للجمهورية خلفا للرئيس ميشال عون.
تجربة الفراغ المرّة
تجربة الفراغ الرئاسي لم تكن سهلة أمام الرئيس نجيب ميقاتي. التجربة الجديدة التي أرادها ربّما لتثبيت موقعه كرئيس حكومة لا يمكن الإستغناء عنه في المرحلة المقبلة لم تحقق نتائجها وتكاد تنتهي إلى نتائج عكسية تكراراً لنتائج تجربة حكومته في العام 2011. هذه التجربة تترافق مع استمرار فتح ملفات تتعلّق بتهم موجّهة إليه في لبنان والخارج في قضايا مالية وأعمال تجارية، خصوصاً أنّه كان أعلن في مقابلة تلفزيونية أنه نقل كل أمواله إلى الخارج.
بدا الرئيس نجيب ميقاتي وكأنّه أقرب إلى الخروج من اللعبة السياسية ونادماً على قبول إعادة تكليفه رئاسة الحكومة أو بقائه في السلطة كرئيس لحكومة تصريف الأعمال. لا شك في أنّه أمام قرارات صعبة أولها أنه قد لا يكون خياراً في مرحلة التسوية المقبلة إذا حصلت، وأنه قد يكون عليه ترميم وضعه السياسي بالكامل، أو الإنكفاء والعودة إلى عالم المال والأعمال ومواجهة التهم التي توجّه إليه وهو خارج السلطة.