تُوَظِّفُ هذه المنظومة أركانها للسِّجَال في ما بينهم بهدف تسجيل المواقف الشعبويّة بعضهم على بعض. رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي يهاجم «التيّار الوطني الحرّ» من دون أن يسمّيه «لي ما بدو يمدّد ما بيجي بيحضر الجلسة وعنّا كان ملفّات أهم وما حضرتوا»، و»التيّار» في سجال مع نجيب غير نجيب. ما لم يعد يفهمه بعض اللبنانيّين هو هذا السجال غير النّجيب. حيث يقوم «التيار» بالتهجّم على رئيس المجلس وينعته بأشنع الصفات، ثمّ يعود وينتخبه لرئاسة هذا المجلس مؤمّناً له تلك الـ65 الهزيلة. واليوم يكرّر السيناريو نفسه بعدما قلّب قواعده وجيّشهم للتهجّم على رئيس الحكومة، ويعود هو نفسه فيدخل في جدل دستوري مؤمّنًا تلك الـ65 للجلسة غير التشريعيّة ليقرّ قانون التمديد للمجالس البلديّة والاختياريّة للسنة المقبلة. على وقع تبادل الاتّهامات بالكذب على النّاس بين أطراف الفريق الواحد. حتّى لو حاول بعضهم هذا التّمايُز عمّا بات يُعرَف بالمنظومة. لكن على ما بات واضحاً أنّ هؤلاء الـ65 «دافنينوا سوا».
أين هم المتباكون على التشريع في ظلّ الفراغ الرئاسي؟ ألم تعد كرامة الرئيس وحقوق المسيحيين من اهتمامات «التيار»؟ أم أنّ ذلك فقط بالصراخ وتبادل الاتّهامات، ليقوم بعدها بالموافقة على ما تريده هذه المنظومة. والدّليل أنّ نائب «التيّار» نفسه هو الذي قام بإخراج التأجيل. وآخر من الفريق نفسه، متحلّياً بالمسؤوليّة والحسّ الوطني، تحجّج بتلافي الفراغ. هذه المسؤوليّة الانتقائيّة، والحسّ المتشخصن، لم يستيقظا مثلاً في موضوع الانتخابات الرئاسيّة. أو هل من الممكن مثلاً أن يستيقظا يوماً ما ليبحثا في استراتيجيّة دفاعيّة وسياديّة ووطنيّة ليعود لبنان دولةً في نادي الدّول الطبيعيّة؟
هذه المسرحيّة الهزليّة لم تعد تنطلي على أيّ لبنانيّ عاقلٍ، لأنّ ألاعيب هذه المنظومة كلّها انكشفت وباتت واضحة كالشمس. ومَن لا يريد حتّى الساعة أن يصدّق ما تراه عيناه، فهذه مشكلة نابعة من الحقد الوطني المستوطن في قلبه. ولا حلّ وطنياً مع أمثال هؤلاء كلّهم. والمسرحيّة الأكثر هزليّة ذلك الخلاف المصطَنَع مع «منظّمة حزب الله» التي تحمي منظومة هذا الفريق الفاسدة؛ حتّى سرعان ما تبيّن أن لا خلاف بين هذا الفريق سوى على قاعدة «تبدِية» المصالح الفريقيّة في ما بينهما. وفور ما يتمّ ترتيب هذه الأولويّات يتبدّد أيّ خلاف. على قاعدة «تدلّل العروس لترفع مهرها عند العريس». من هذا المنطلق، لم يعد المجلس هيئة انتخابيّة بل استحال هيئة تشريعيّة غبّ الطلب. وما رفضهم إدخال مناقشة الترسيم البحري مع العدوّ الإسرائيلي إلى النّقاش داخل مجلس النوّاب إلّا ذريعة من هذه الذرائع. وكما عوّدوا اللبنانيّين على نهج الديمقراطيّة التعطيليّة الذي كرّس حكم منظومتهم، هكذا عطّلوا الديمقراطيّة مرّة جديدة ليبيحوا لأنفسهم استمراريّة نهجهم الحاكم. وعلى هامش ذلك كلّه، وصل عهرهم الدّستوري إلى حدّ نسف قانون الشراء العام عبر تشويه أسسه وتفريغه من جوهره ليتلاءم مع صفقاتهم الموعودة؛ وهو الذي يكاد أن يكون من إنجازات هذا المجلس الاستثنائيّة.
ما حدث هو جريمة بحقّ الوطن. وأيّ اتّهام بالشعبويّة باطل لأنّ الشعبويّ الوحيد هو الذي يتكلّم بخطابين متناقضين ومن ثمّ ينفّذ رغبة أولياء رقبته السياسيّة. فالبحث بالقضايا التقنيّة لإتمام العمليّة الانتخابيّة ممكن في أيّ لحظة؛ لكن أن تستغَلَّ الديمقراطيّة بحدّ ذاتها لتطيير الدّيمقراطيّة! فهذه أسفل دركات جهنّم. وأيّ شكٍّ بأداء هذه الطغمة قد انقطع باليقين الذي تجلّى واضحاً للعيان.
أمام هذه الوقائع كلّها، ما هو السبيل إلى التخلّص من هذه الطغمة؟ هل نقف عاجزين ننتظر لحظة دفننا لأنّ بعضنا قد اقتنع أنّه جثّة تسير على قدمين؟ لا يا سادة. الحلول كلّها متاحة؛ وهي بأيدينا نحن فقط. ما من دولة ستنقذنا إن لم ننقذ أنفسنا. وما من اتّفاقيّات تقاربيّة أو ابراهيميّة بين الدّول الإقليميّة ستعيد المجد المسلوب إلى لبنان. المطلوب منّا كلبنانيّين كِيَانيّين أن نتكاتف كلّنا ونتّحد حول هويّة لبنان الكِيَانيّة التي نؤمن بها. وهذا التكاتف يجب أن يُترجَم عمليّاً بالسياسة عبر جبهة لبنانيّة كِيَانيّة يتعالى أفرادها عن المصالح الشخصيّة كلّها.
والمطلوب في الخطوة الثانية مواكبة جماهيريّة داعمة للعمل السياسي السليم، لا الاكتفاء بالدّعم المعنوي المطلوب، وذلك للضغط على أساسات هذه المنظومة بهدف إسقاطها بالضربة القاضية. وقد تكون هذه الذريعة، أو الدّافع لفرض تسوية من طبيعة سياديّة، لتكمل المشروع السياسي السيادي، وتواكب هذا الحراك الجماهيري. أطلبوا ذلك فقط وكلّ ما هو أبعد يُزَادُ لكم؛ من اقتصاد وسياحة وأمن واستقرار ونفط وغاز وعلاقات ديبلوماسيّة وحدود مضبوطة وتركيبة سياسيّة جديدة تمنع السلبطة وتؤمّن الإنماء المتوازن والعيش الكِيَاني الحرّ؛ إضافةً إلى قضاء نزيه يبلسم جرح أهالي شهداء الرابع من آب. فهل سيقول النّاس كلمتهم حيث لم يجرؤوا بعد على قولها ليصبح سجال نجيبٍ وغيره نجيباً؟