رفع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في الأيام الماضية، درجات تقييم الإنهيار إلى مستوى «في غاية الخطورة»، معتبراً أنّه «من الصعب جدّاً الإستمرار على هذا المنوال»، وإلا سيأتي يوم يبلغهم فيه أنّ «هناك قراراً أساسيّاً وحسّاساً يتعلّق باستمرارنا في العمل الذي نقوم به، ينبغي اتخاذه». ما كشفه ميقاتي من «سرّ» خطيرٍ، يعرفه الجميع، أو بالأحرى يغمّسه اللبنانيون يوميّاً في مرارة خبزهم، وَأَمَرّها امتعاض الطبقة السياسية الحاكمة من أداء حكمها، وتقاذف المسؤوليات تجاه بعضها البعض. حتى باتت الحكومات أكانت من بنات «الوحدة الوطنية» المتنافرة، أو من أبناء المخيّم السياسيّ الواحد وعشّاق ركوب السلطة، لا توحّدها سوى الصورة التذكارية المزيّنة بابتسامات الوزارء قبل صرير الأسنان وتطاحن الملفّات. أتت النبرة الميقاتية العالية، في ظلّ تبوّؤ الشغور مراكز الدولة وإداراتها ومؤسساتها الواحدة تلو الأخرى، وروتينيّة المطالبات الدولية والعربيّة باجتراح «أعجوبة» الإصلاحات وانتخاب رئيس للجمهورية، وتسخين السّاحة السياسية والأمنيّة بعد حادثتي الكحّالة وعين إبل، وقبلهما معارك عين الحلوة. إزاء هذا الإضطراب والإرتجاج العام، هل يذهب ميقاتي إلى ما بعد الإستشاطة والسخط الحكوميين؟ أيحقّ له الإعتكاف عن ممارسة تصريف الأعمال؟
يُشكّل الإعتكاف سلاحاً عُرفيّاً في يد رؤساء الحكومات، إذ لا يوجد أيّ نصّ دستوري يلحظ ذلك. وفي حال حصوله، يُعتبر موقفاً سياسيّاً يعكس إمتعاضاً معيّناً. ويعني هذا المصطلح الخاص بالقاموس اللبناني، الزاخر بمفردات سياسية غريبة غير متوفّرة في بلدان العالم، «حَرد» رئيس الوزراء، أي الوقوف بين الإستقالة من العمل الحكومي بشكل موقّت وغير معلن، والبقاء على ترؤّسها، لحين تلبية مطالبه أو الوصول إلى تسوية معيّنة. هل يفعلها ميقاتي؟
إنتهاك دستوري
أشار المحامي والأستاذ الجامعي د. عادل يمين إلى أنّ «المادة 64 من الدستور توجب على الحكومة المعتبرة مستقيلة، ممارسة تصريف الأعمال بالمعنى الضيّق لحين تأليف حكومة جديدة، واعتبر أنّ انتهاك الحكومة حدود التصريف إلى القيام بأعمال تصرّفية خارج الحالات الاستثنائية والضرورية جدّاً، وكذلك تجاوزها صلاحيات رئيس الجمهورية وموقعه في ظلّ الشغور، وعدم أهلية مجلس الوزراء في ظلها لتولّي صلاحيات الرئيس، يُعدّ انتهاكاً للدستور».
في المقابل لفت يمّين إلى أنّ «امتناع الحكومة الحالية عن تصريف الأعمال، يعتبر أيضاً انتهاكاً لأحكام المّادة 64 من الدستور التي تجعل من موجب تصريف الأعمال إلزاماً على رئيسها وأعضائها وليس خياراً استنسابيّاً. ما يعني أنّ اعتكاف رئيس حكومة تصريف الأعمال يُشكّل إخلالاً بالواجبات الوظيفية وتعطيلاً لسير المرافق العامة. وفي حال حصول هذا الأمر، يمكن لمجلس النوّاب بغالبية الثلثين من عدد أعضائه أن يتّهم رئيس الحكومة أو أيّ من الوزراء الذي يمتنع عن تصريف الأعمال بتهمة تعطيل السلطة والإخلال الوظيفيّ، ويحال إذ ذاك على المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء». وأوضح يمين أنّ «اتهام رئيس الوزراء أو أي من الوزراء عند الإقتضاء، ليس عملاً تشريعيّاً حتى يقتصر على الضرورة في حال الشغور في سدة الرئاسة».
ماذا عن الوزراء؟ قال: «يستطيعون الإستمرار في أعمالم، لأنّهم ليسوا موظفين لدى رئيس الحكومة ولا يخضعون لتسلسل إداري تجاهه وبالتالي يستطيعون ممارسة أعمالهم في وزاراتهم وتصريف الأعمال (بالمعنى الضيق)، لكنّهم سيواجهون تحديات في ما يتعلّق بالقرارت التي تحتاج إلى دور لرئاسة الحكومة». أمّا من النافذة السياسية، فاعتبر يمين أنّ موقف ميقاتي يهدف الى «تحقيق جملة أهداف سياسية، أبرزها محاولة استيعاب الحملات وما نسب إليه من تجاوز في مفهومه لتصريف الأعمال وموقع رئاسة الجمهورية. ويحاول الظهور بمظهر المتعفّف عن الحكم وغير المتمسّك بالسلطة، ويهدف أيضاً إلى إحراج القوى السياسية وربما ابتزازها بغرض تمرير سياساته سواء في مجلس الوزراء أو في مجلس النواب، بعدما لمس هو وحلفاؤه عجزهم عن تأمين عقد جلسات لمجلس النواب لتمرير مشاريعهم».
درويش: غير وارد الآن
من جهته، أكّد النائب السابق علي درويش، أن اعتكاف ميقاتي غير وارد حتى الآن، واضعاً «نبرته العالية» في خانة التحذير الموجّه إلى القوى السياسية كافة، أكانت داخل مجلس الوزراء أو مجلس النوّاب، لتحمّل أعبائها وعدم إلقاء كرات النار والملفات الشائكة في ملعب رئيس حكومة تصريف الأعمال». واعتبر أنّ ميقاتي يقوم بواجباته كاملة من أجل تسيير شؤون الناس وأعمال السلطة، خصوصاً في ظلّ الشغور الرئاسي، المسؤول عنه القوى السياسية وليس ميقاتي أو حكومة تصريف الأعمال». وشدّد على أنه بات واضحاً لدى الرأي العام، من الذي يعرقل حياة المواطنين ومن الذي يعمل على إيجاد الحلول وتخفيف وطأة العيش، وأنّ المساءلة الحقيقة ستكون أمام النّاس».
وفي آذار 2016 لوّح تمام سلام بالإعتكاف، امتعاضاً من طريقة تصرف وزراء «التيار الوطني الحر» خلال فترة الشغور الرئاسي. أمّا سعد الحريري فأعرب عن رغبته في الإعتكاف أكثر من مرّة، خصوصاً في تمّوز 2019 بعد حاثة قبرشمون، وقبلها في عام 2018، استنبط الحريري فكرة «الصمت» أثر تعثّر تشكيل الحكومة الأولى بعد انتخابات أيار النيابية. كذلك لوّح حسّان دياب باللجوء إلى تكتيك الإعتكاف عن ممارسة تصريف الأعمال في آذار 2021 للضغط من أجل تشكيل حكومة جديدة.
تعود الفكرة إلى بدايات نشأة الجمهورية اللبنانية، غير أنّ الذاكرة السياسيّة تُسجّل لرشيد كرامي أطول مدّة اعتكاف بسبب خلافه مع رئيس الجمهورية حول النشاط الفلسطيني المسلّح، واستمرّ 6 أشهر حتّى وافق لبنان على توقيع اتفاق القاهرة الشهير في 3 تشرين الثاني 1969. ومثله أقدم صائب سلام في 10 نيسان 1973 بسبب اغتيال اسرائيل ثلاثة قادة من منظمّة التحرير الفلسطينية، واتهامه الجيش اللبناني بالتقصير والمطالبة بتغيير قائد الجيش العماد إسكندر غانم. والرئيس رفيق الحريري ما بين 8 أيّار 1994 و14 منه، احتجاجاً على ما اعتبره انقلاب مجلس النوّاب عليه خلال مناقشة مشروع قانون تنظيم الإعلام المرئي والمسموع.
رشيد كرامي اعتكف 6 أشهر