لم يشهد تاريخ لبنان الدستوري فوضى قانونية كالحاصلة حالياً مع وقوف السلطة القضائية في وجه السلطة التشريعية. بدأ ذلك بمخالفة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي القانون عندما قرّر مجلس الوزراء العام الماضي إصدار 14 قانوناً أقرّها مجلس النواب، قبل أن يجمع ميقاتي المجلس مجدداً، بعد أسبوعين، ويقرر عملاً بصلاحيات رئيس الجمهورية التي تمارسها الحكومة بالوكالة، ردّ ثلاثة من القوانين الـ 14 (قانون تحرير الإيجارات غير السكنية، القانون المختصّ بصندوق التعويضات لأفراد الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة، وقانون تعديل بعض أحكام قوانين تتعلق بالهيئة التعليمية في المدارس الخاصة وبتنظيم الموازنة المدرسية) إلى مجلس النواب لإعادة درسها. قرار ميقاتي الذي جاء بعد ضغط من رئيس مجلس النواب نبيه بري لوقف قانون تحرير الإيجارات نتيجة ارتفاع صرخة المستأجرين، وضغط من بكركي لوقف تنفيذ قانون إنشاء صندوق التعويضات مع ارتفاع صرخة المدارس الخاصة، فتح الباب أمام فوضى قانونية، زادها دخول مجلس الشورى، رغم أنه غير ذي اختصاص في الطعن بأعمال حكومية، طرفاً في هذا النزاع عبر قرارات إعدادية آخرها صدر قبل أسبوعين بوقف مراسيم الحكومة القاضية بردّ القوانين الثلاثة إلى مجلس النواب، والإيعاز بنشرها في الجريدة الرسمية واعتبارها نافذة حكماً.رفض بري قرار الشورى القضائي وأبلغ ميقاتي بأن «المجلس سيّد نفسه وهو يقرر ما إذا كان راغباً بردّ هذه القوانين أم لا»، وهو ما أبلغه رئيس الحكومة للوزراء في الجلسة الأخيرة معلناً التزامه التام بقرارات مجلس الشورى وإرساله رسالة إلى بري طالباً إعادة القوانين إليه لإصدارها.
«الشورى» من خارج صلاحياته يرد قرارات من خارج صلاحيات رئيس الحكومة
وكانت مراجعات عدة قُدّمت أمام مجلس شورى الدولة في ما خصّ مراسيم الردّ الصادرة عن الحكومة، أولاها من تجمّع مالكي الأبنية المؤجّرة في لبنان يطلب فيها إبطال مرسوم رد قانون تحرير الإيجارات غير السكنية. ورغم تقدّم رئاسة الحكومة بمراجعة لرد الطعن أولاً لعدم اختصاص مجلس الشورى بالنظر في قانونية القرارات الحكومية، حسم رئيس مجلس الشورى فادي الياس المسألة بإصداره قراراً إعدادياً في نيسان الماضي قضى بوقف تنفيذ المرسوم 12835 المتعلق بإعادة قانون الإيجارات إلى مجلس النواب. كما أصدر الياس بعد مراجعة تقدّمت بها النائبة بولا يعقوبيان لإبطال قرار مجلس الوزراء بردّ القوانين الثلاثة، قراراً إعدادياً في 30 أيار الماضي قضى بوقف تنفيذ المرسومين 12836 و12837 المتعلقين بصندوق التعويضات لأفراد الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة وتعديل بعض الأحكام المتعلقة بالهيئة التدريسية، استناداً إلى قرار للمجلس الدستوري صادر عام 2001 يؤكد أن صلاحية رئيس الجمهورية في رد القوانين إلى مجلس النواب تعود إليه دون غيره. ورغم تبني ميقاتي قرارَيْ مجلس الشورى وتوجيهه رسالة إلى رئيس مجلس النواب بردّ القوانين إليه ليصار إلى نشرها، فقد تقدّم بطلب الرجوع عن قرارات الشورى أمام هيئة القضايا في وزارة العدل مستنداً إلى حجتين:
1 – غياب العلاقة بين ظروف وأسباب صدور قرارات وقف تنفيذ القوانين من قبل الحكومة اليوم بظروف عام 2001 حين كان رئيس الجمهورية موجوداً ويمارس صلاحيته.
2 – صلاحيات الردّ ليست منوطة حصراً برئيس الجمهورية كونه إذا ما قرّر رد القوانين يحيل قراره إلى مجلس الوزراء للاطّلاع عليه ثم يصدر مرسوماً يوقّعه مع رئيس الحكومة، الأمر الذي يتعارض مع عبارة «الصلاحيات المنفردة».
والسؤال اليوم يتمحور حول آلية حسم هذا الخلاف والجهة التي ستتمكن من فرض قرارها في ظل الفضيحة الدستورية التي ستؤدي إلى تصادم بين السلطة القضائية ممثّلة بمجلس الشورى والسلطة التشريعية ممثّلة برئيس مجلس النواب. وقال الأستاذ الجامعي المتخصّص في القانون الدستوري وسام اللحام لـ«الأخبار» إن «هذه الفوضى الدستورية غير مسبوقة وهي نتيجة عبث السلطة السياسية بمؤسسات الدولة الدستورية وعدم احترامها لأي أصول، ما أوجد سوابق لا حل دستورياً لها. وقد انتهى الأمر بإبلاغ بري لميقاتي أن المجلس سيّد نفسه، في حين أن مجلس النواب لم يتخذ أي قرار، بل إن بري يصادر اليوم صلاحيات الهيئة العامة ويحتكر قراره من دون العودة إلى المجلس والأخذ برأيه. وعليه خرج الإشكال عن الطابع المؤسساتي وأصبح يعالج في الأروقة السياسية ووفق مصالح كل جهة، فضلاً عن كون الفوضى التي تسبّب بها ميقاتي قد تشعّبت وباتت عرضة لعدة احتمالات: فماذا إذا عمد مجلس النواب إلى إقرار القوانين مرة ثانية، ما يوجب إصدارها ونشرها بينما سبق لمجلس الشورى أن أوقف مراسيم ردها؟ وماذا إذا أعاد مجلس الشورى إصدار قرار نهائي بإبطال مراسيم الرد، ما يعني أنها أصبحت نافذة لانصرام المهلة الدستورية لإصدار القانون وهي شهر واحد؟ وماذا إذا أفضت الضغوط السياسية إلى إصدار مجلس الشورى قراراً نهائياً بعدم قبول الطعن وبالتالي اعتبار مراسيم الحكومة بردّ القوانين نافذة وكأنّ شيئاً لم يكن؟ ثمة أسئلة كثيرة واحتمالات متشعّبة ولا يمكن التكهن أبداً بما يمكن أن تؤول إليه الأمور في ظل هذه الفوضى».