الثقة التي يكتسبُها الرئيس نجيب ميقاتي كبيرة. وضعَ نصب عينيه أن يكون رجُل المرحلة في كل ما لهُ علاقة بإدارة البلد. خطابهُ تنفيذي يعرف أن الرجال لا تظهر إرادتهم النهضوية إلّا في المُلمّات العصيّة على التفكيك. ليس كغيره ممّن يلعب على الكلمات والظروف ويخترع حججاً للتقصير أو للتخلّي. «يطحشُ» في كل الاتجاهات دفعةً واحدة لتأمين مقوّمات الصمود الاجتماعي. ويتبرّأ من الآن من أي اتهامات مقبلة اعتادها اللبنانيون بصرف الأموال (لم تأتِ بعد) في غير مكانها بأن يسلّم الوزارات وربما هيئات من الدول المساعِدة مسؤولية الإشراف على التوزيع رغم صعوبة ذلك. يعمل على تقديم نموذج مسؤول من القيادة. هو قائد تنفيذ الأمن الاجتماعي إذا كان الأمان مفقوداً بفضل هجمات الطيران الحربي المتوحش شكلاً ومضموناً.
لم يقل منذ بداية عملية إسناد غزة قبل سنة، أن ذلك القرار «لم تتخذه الحكومة» وبالتالي هو خارج على القانون. روح فلسطين وروح العروبة الحقة وروح الواقع المرير تحركت في ضميره فلم يُلقِ باللائمة على المقاومة كأولئك المستمتعين بذاكرة ضيقة، رخوة. يدرك الرئيس ميقاتي أن «القضاء على المقاومة» هو هدف إسرائيلي مبيّت منذ سنوات. على الأقل منذ صعد نتنياهو إلى منبر الأمم المتحدة عارضاً خرائط وصوراً وهمية أمام العالم عن ترسانة المقاومة، وضرورة تدميرها بالنسبة إليه، معتبراً نفسه يدافع عن «العالم الحر». و«المتيلة» التي يردّدها الفينيقيون اللبنانيون عن «اعتداء لبنان على إسرائيل» لا مكان لها في تحليله السياسي كونه ينظر إلى ما هو أبعد. يعلَم ميقاتي أن ذريعة ضرب لبنان كان يمكن أن يخترعها نتنياهو من أدنى تفصيل ميداني. ومَن لديه هذه القناعات لا يؤخذ بظاهر الأمور. والمهم المهم هو أنه ما زال يتابع أدق التفاصيل مع القوى الدولية من أميركا إلى أوروبا، ويتسلّح بتوافق جذري مع رئيس مجلس النواب نبيه بري على كل الخطوات الآنية والمقبلة. وشمّاعة القرار ١٧٠١ التي يعلّق اللبنانيون الفينيقيون عليها منطقَهم ويطالبون به الدولة اللبنانية دون إسرائيل، هو بالنسبة إليه قرار أممي ينبغي احترامه ليس لبنانياً فقط بل من الجارة العدوّة الوحشية. وأول بنوده تطبيق تراجع الجيش الإسرائيلي عن الحدود اللبنانية بنسبة ما يُطلَب من المقاومة أن تفعل. فضلاً عن توقف الاختراقات والانتهاكات الاسرائيلية لسماء لبنان. هذا يجاهر به ميقاتي ويصرُّ عليه كي يكون متوازناً ومنطقياً في التجاوب مع القرار الأممي. أما المطالبة الفينيقية بتنفيذ لبنان ١٧٠١ من دون إسرائيل، ومن دون وقف انتهاكاتها الجوية، فذاك تنفيذ لمنطق إسرائيل في إخلاء ساحة الجنوب لعدوان إسرائيلي في أي وقت تريد.
إن المناداة بتطبيق الشرعية الدولية يتعيّن أن تكون بكل البنود، لا بدفع لبنان إلى التطبيق وترْك إسرائيل حرّة الأيدي.. والأرجُل. وهنا مربط الفرس الذي يعتمده الفينيقيون اللبنانيون بذِكْر القرار ١٧٠١ من دون الإشارة إلى مندرجاته. لم أسمع فينيقياً لبنانياً يقول بتراجع إسرائيل عن الحدود اللبنانية، ولا بوقف طلعاتها الجوية. يُمَغمغون في هذا الموضوع ويُصدّرون عنوان ١٧٠١ دون التفاصيل الدقيقة التي فيه. كأنهم يخشون الدولة العِبرية إذا ساووها بالمقاومة ويخافون المساءلة الأميركية التي تتابع على الأرض كل تصريح أو رأي ممن يفترَض أن يقفوا خلفها.
واللافت في تصريحه الأخير إشارته الصارخة إلى أنه «هل بات مُحرّماً علينا أن ندافع عن حقنا وأرضنا وكرامتنا». كلام هو إسناد لجولات البطولة التي تُجريها المقاومة على أرض الجنوب. يتبنّى بالشكل الواضح لكنْ المضمَر أيضاً دفاعاً عن أهل الأرض المقاتلين، وهذا أقصى ما هو مطلوب منه. وإذا كان معروفاً عن نجيب ميقاتي السياسي أنه يختار عباراته بما لا يزعج أحداً، فإنه في كلامه الأخير يتقبّل المجتمع الدولي وهو ينتقده، ويحاور المسؤولين الأميركيين وهو يعرّيهم، ويعتب على المجتمع العربي وهو يتهمه بالتخلّي، ويعمل بلغةٍ هادئة على الحصول على ما يريد من المساعدات الملحّة بمنطق الأخوّة. لم يعد نجيب ميقاتي مستجيباً لمن يضع اللوم أو بدء الحرب على المقاومة بقدر ما بات يسأل الجميع عن اليوم التالي، عن الإسهامات الضرورية لهم في إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ولعلّ استنكاره الشديد للتعرض لليونيفيل يصب في الخانة نفسها. ولا أدري ما إذا كانت وصلت إلى ميقاتي المعلومات الثابتة بأن الغارة الأخيرة على بيروت كانت من فوق السفارة الفرنسية مباشرةً بحيث سمعها السكان هناك بوضوح. وربما يكون ذلك تكملةً لمضايقة اليونيفيل وفيها قوات فرنسية كبيرة، فضلاً عن أنه قد يكون رسالة إلى فرنسا التي دعت «إلى وقف تسليم إسرائيل السلاح» وحدثت بين رئيسها ماكرون ونتنياهو مشادة نُشرَت في الإعلام.
يعرف ميقاتي أن الحرب ستنتهي، وعليه أن يكون رمزاً للتصدّي. وهذا ما يثبّته في رئاسة الحكومة الحالية كتمهيد للمرحلة المقبلة وانتخاب رئيس جديد للبلاد. يعمل ميقاتي على أن مستقبل البلد، بعد هذه المرحلة الداكنة، سيكون لقيادات تدافع عن البلد وتحفظه وتنجّيه من كوارث إضافية. ومَن له هذه الشخصية اليوم، سيكون في الغدّ مطلباً وطنياً جامعاً.. باستثناء جماعة الفينيقيين اللبنانيين الذي حضّروا رئيساً للجمهورية هو بشير الجميّل ورئيس حكومة هو شفيق الوزان ورئيس مجلس نيابي هو كامل الأسعد!