ليست الدساتير جدولاً للضرب وأرقاماً وحسابات قوّة طائفية وانتخابية وصراعات وملاكمات، يستحيل معها نصب الخيط بين قصرين رئاسيين أو أكثر في لبنان. إنه الإمعان في الانزلاق السادي على أبواب الجحيم عبر المسائل الخلافية والدوران فوق أراجيح التمثيل وموازين القوة والضعف.
أكتب هذا يوم الرابع ذكرى دماء تفجير وجه لبنان من مرفأ بيروت، وأمسح بحبري بحوراً من حزنٍ وخوفٍ ودماء.
كلّكم أقوياء في قصوركم لكن بين قوسين، ولبنانكم الأضعف في العالم، وشعبكم أضعف من ضعيف منهوب الروح والغد.
ليست الدساتير نصوصاً إلهية نمارسها بالتمتمة والصلاة والركوع أمامها والتفاهم الجامع على نقاطها وفواصلها كي لا نقل مقاطعها ومعانيها وتفسيراتها التي تخضع للأهواء والاجتهادات والأخطاء بحيث تبدو نجاحاتها وإخفاقاتها محكومة بالممارسة والتطبيق. فكيف نطبّقها في مجتمعات لبنانية شديدة التعقيد والدينامية ومحرومة نهائيّاً من الاستقرار؟
الدستور روح الأمة لا طوائفها ولا ميزانياتها أو حصصها. هي روح مونتسكيو. يعرف هذا نجيب ميقاتي المدموغ بالأرقام والثروات وقدرات مميّزة في الجمع والتجرّد والإقدام. الفلسفة خرجت في اليونان من الأرقام في الصين والشرق الأقصى والخوارزميات دمغة العصر وصارت نصوصاً مشبعة بالمنطق والوصل.
ينتظر اللبنانيون يا سيّدي ليس تكراراً لما هو مقيم وموروث في ناديكم لقدامى رؤساء الوزارات بعيداً من المذاق الطرابلسي الثائر واللبناني المتفجّر والناطر.
التحدّي مقيم في جمع ما لا يجمع ودربه الترفّع والتماس الموسيقى الناعمة وطرب الفؤاد مع السنيورة بما يتجاوز الأرقام والمناصب إلى الوطن، إذ لا يجوز بعد أن يفلت رأس الخيط الوطني والسياسي مجدداً بين الرئاستين الأولى والثالثة إن كان التركيز عن بقايا لبنان!
لا تقطع الخيط يا دولة الرئيس.
كفر لبنان واللبنانيون بوطنهم بين الثوب السياسي المهلهل والإبر في التفصيلات، بين ثبوت نصوص الدستور اللبناني وتحولاته أو تجاوزه وتمزقاته وفقاً للأمزجة والمصالح والمقتضيات الشخصية والعربية والدولية واجتراح القوانين المكدّسة التي تخيط الناقض والمنقوض. خرج لبنان من جمهوريته الأولى المختومة بـ200000 شهيد وعشرات ألوف المعاقين، مرميّاً فوق أكتاف الأمم ومجلس الأمن الدولي وكانت الأبواب الذهبية مشرّعة لولوج الى الجمهورية الثانية العذراء لكنه لم يخرج. لم تختمر ولم تُخبز عجينة الدستور الجديد، وخصوصاً مع الجنرال، وبقينا نعاين أمراضاً مزمنة عبر السفراء والأوصياء المستوردين من بقاع الأرض العربية والدولية، وكأني بلبنان جاء ليخرج من الخنادق الى المستشفيات ومن الباحات الى الشلل فوق الأسرّة ومن الصراخ بالتغيير الى الصراخ من شدّة الأوجاع. لم يعالج الدستور جروحنا السياسية المزمنة المنتفخة بالطائفيات المذهبية الموحلة، وكلّما تحركنا فيه أوتقدمنا خطوات كلّما غرقنا ولا من يرثينا أو يسمعنا أو يكترث بانقساماتنا اليوم.
ad
بتنا أدوات ضحلة…
لا يكفي أن يصدح نادي رؤساء الوزارة على أنغام الطرب بـ«الثبات على الخط» وعنه لا يزيحون، بل أخبرونا أين يبدأ هذا الخط وأين ينتهي والى أين يوصلنا خصوصاً أنه خيط حرير انقطع مع اغتيال رفيق الحريري وفلت من بين أصابعنا جميعاً مرّة واحدة. لم يُدرك اللبنانيون بعد بياض هذا الخيط من سواده وقد صار وطننا رثّاً فارغاً إلاّ من جوع وقهر ورواتب يابسة ومدّخرات متبخرة بين سياسيين وحاكم مصرف مركزي ومصارف، برعاية إدارات منهارة بقرارات مرتجلة لمجموعات مذهبية صمّاء بلهاء خارج الدستور وخارج الوطن، وبانتظار قرارات خارجية لا فكاك منها إلاّ بالخرائب المكدّسة أمامنا.
وهنا أسأل:
وإذا لم يمسك ميشال عون بالخيط من الجهة المقابلة، فكيف يكون العزف الوطني؟ وهل وظيفة الرئيس الإمساك بطرف الخيط والرقص على نشوة توقيعه مرسوم تكليف رئيس الحكومة فقط والتفرج على الجمهورية السعيدة التي رمتنا في دين 42 مليار دولار ولم تتمكن من أن تضيء مصباحاً لنا في عتمتنا المعممة من الألف إلى الياء؟
أهو من صلب دستور الطائف وتقاليد الجمهورية الثانية أن يقبع الرئيس في بعبدا منتظراً تشكيلة الحكومة لتوقيعها هدية تطبيق الدستور والحكم؟ أي دستور؟ دستور الطائف فوق الرفوف أم دستور من خلعوا ثياب الميليشيات وشغلوا الدولة بكلّ ما تهوى سوى الدستور؟
لا أتصوّر أنّ مصطلحاً أكثر من كلمة «الطائف» حظي بهذا الكم من الحبر والنقاش والصراع بين اللبنانيين في تاريخهم المعاصر. ليست المعضلة في الدستور اللبناني الذي بقي مؤجّلاً حتى بعد خروج سوريا، لم يطبق لا نصاً ولا روحا وتمّ إجهاضه بالعجز عن العزف المنفرد، وعدم تقطيب الجروح الموروثة والمتجددة خارج نبض التغيير في الجسد الواحد