تكرّرت المعزوفة الدولية إياها التي ترددها العواصم الأجنبية التي التزمت مساعدة لبنان على تخطي أزمته الاقتصادية المالية والمعيشية، بأن “ساعدوا أنفسكم كي نساعدكم”.
هي النصيحة نفسها منذ ما قبل انكشاف المأزق الاقتصادي في 2019، وصولاً إلى انفجار مرفأ بيروت الزلزالي. والسنوات التي مرت على هذه النصيحة، من دون أن تأتي بنتائج، رسخت القناعة أكثر لدى العواصم الكبرى بأولوية إيجاد الحلول للأزمة السياسية لتسهيل انطلاق الحلول لتفاقم الأزمات الاقتصادية والمعيشية الخانقة. فقد تعذر فصل التأزم اللبناني عن الصراع الدائر في الإقليم، ما وضع الصيغة اللبنانية أمام مخاطر كبرى، منها التحذير من زوال لبنان.
من الشواهد الجديدة على هذه القناعة قول البابا فرنسيس لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون في برقيته لمناسبة عيد الاستقلال إن “مشروع امتكم قائم على تخطي الانتماءات الطائفية للسير معاً نحو شعور وطني مشترك”. وفي ذلك إشارة إلى تنامي التناقضات الطائفية وحساسياتها في الآونة الأخيرة المسيحية – الشيعية من جهة، وإشارة أيضاً إلى عدم موافقة الفاتيكان على التعبئة الطائفية التي دأب الفريق الرئاسي و”التيار الوطني الحر” على اعتمادها في خوض معاركه السياسية من أجل مكاسب فئوية في السلطة تجانب الحلول المطلوبة للأزمة برمتها.
كما تجلى ذلك في برقية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لعون حين قال إن “المحطات العنفية الأخيرة تظهر بوضوح حجم المخاطر المرتبطة بمواصلة شلّ السلطات الرسمية تجاه التحديات التي يواجهها لبنان”. وفي ذلك إشارة إلى أحداث الطيونة الدموية وإلى شروط “حزب الله” في شأن التحقيق العدلي في انفجار مرفأ بيروت وإصراره على إزاحة المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، والذي يعطل الحكومة التي تعتبر باريس أنها عرابتها لعلها تخفف من وطأة الانهيار في أوضاع اللبنانيين المعيشية، وسط القلق من تسبب استمرار التعطيل بتصاعد الصراع السياسي. ومن هنا ربط ماكرون بين “إجراءات قوية ضرورية من قبل المسؤولين اللبنانيين لاستعادة الثقة، والتي من دونها يخشى مضاعفة عزلة لبنان الإقليمية”. وفي ذلك إشارة من الرئيس الفرنسي إلى تعطيل الحكومة من قبل “حزب الله”.
يقتصر اهتمام العواصم الكبرى التي تتابع تفاصيل التفاصيل (بما فيها الفاتيكان) على النصح والتداعي لتقديم المساعدات الإنسانية. أما المقاربة السياسية للأزمة فتبقى خجولة لأنه ليس هناك من تصور عملي لها بعد في انتظار اتضاح الصورة الإقليمية، والتي تشكل مفاوضات فيينا محطة رئيسة فيها، والتي ترجح أكثر من عاصمة ومنها موسكو، بأن نتائجها وانعكاسها على السلوك الإيراني في لبنان والمنطقة سيستغرق وقتاً طويلاً.
وسط ضجيج الحديث في الأوساط اللبنانية عن الحاجة إلى رفع يد هيمنة “حزب الله” وإيران على القرار السياسي اللبناني وعلى ضرورة وقف استخدام البلد منصة من أجل حروب إيران في المنطقة، فإن بعض هذه الأوساط لا يتوقف عن تعليق الآمال على عقد مؤتمر دولي لإيجاد حل لهذه المعضلة. وإذا كان من الأفكار المطروحة في هذا الصدد أن لبنان بات بحاجة إلى صيغة جديدة لأن الحالية لم تعد تفي بالغرض، فإن الفريق الذي يتمسك باتفاق الطائف كصيغة مثلى شرط تطبيقه من دون تشويه، يعتقد أن جذر الأزمة في أخذ “حزب الله” البلد نحو خيارات إقليمية قاتلة هو المشكلة. وفي هذا السياق شدد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي خلال حديثه المنفرد مع البابا فرنسيس على أهمية تفعيل اتفاق الطائف وتطبيقه، من باب حفظه العيش المشترك المسيحي الإسلامي كنموذج يشدد الكرسي الرسولي على أهميته، فضلاً عن حفظه حقوق المسيحيين والمناصفة بينهم وبين المسلمين.
لا يملك أي من المراجع الدولية التي التقاها ميقاتي وغيره من القادة اللبنانيين أي جواب حول إمكان الحلول الواضحة للأزمة السياسية في لبنان سواء عبر مؤتمر دولي يجمع اللبنانيين أو غيره. كل النصائح تقتصر على استمرار السعي لجمع الحكومة، وعلى محاولة تطبيق الأولويات المتواضعة لحكومة ميقاتي وهي ثلاث: تحسين وضع الكهرباء وصولاً إلى رفع التغذية إلى 10-12 ساعة، إقرار البطاقة التمويلية، والتوصل إلى اتفاق إطار مع صندوق النقد الدولي يضع عناوين المعالجات للأزمة الاقتصادية المالية، من دون الغوص في أرقام وتفاصيل الإجراءات بل أن يقتصر على مقاربة للحلول، تقوم على زيادة واردات الدولة وتحريك الاقتصاد وإعادة تصحيح مالية الدولة والمصارف ومصرف لبنان وإعادة الهيكلة حيث يجب، على أن يتفق على البرنامج التفصيلي لخطة التعافي لاحقاً، بعد الانتخابات النيابية ثم الرئاسية، ونقطة على السطر. والمطلوب الانتظار والصبر في انتظار أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.